81 عاماً على رحيل ستيفان زيفايج

ثقافة 2023/02/01
...

         كمال عبد الرحمن


في يوم 22/ 2/ 1942 أنهى الروائي والكاتب ستيفان زيفايج حياته بالانتحار في البرازيل..

وُلِد” زيفايج” في النمسا في العاصمة فيينا في 28 تشرين الثاني / نوفمبر 1881، وبها تلقى تعليمه، وحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة بوقت مبكر من شبابه، ومن أصدقائه الفيلسوف الأشهر “سيجموند فرويد”، واشتهر” زيفايج” في بداية حياته كشاعر ومترجم، ثم ذاع صيته في المرحلة التالية من حياته كمؤلف سير وتراجم حين كتب سيرة كل من: “بلزاك”. و”ديكنز” والملكة الفرنسية “ماري أنطوانيت” زوجة ملك فرنسا “لويس السادس عشر».


وفي المرحلة التالية من حياته كتب زيفايج عدداً من القصص القصيرة قبل أن يُذهل العالم بروايته الخالدة (حذار من الشفقة) في عام 1929، ورواية “السرّ الحارق” ورواية “الشفقة الخطيرة” ورواية “آموك” التي تعني باللغة الماليزية الجنون الذي يُخرج الإنسان عن طوره، وروايته “أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة” التي قال عنها “غوركي”: ((لا أظنني قرأت من قبل رواية بهذا العمق))، إضافة إلى روايات أخرى وإلى العديد من القصائد والمسرحيات والمقالات، وقد عاش في “لندن” من عام 1934 حتى عام 1940، واكتسب الجنسية البريطانية، ثم هاجر بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأميركية ومنها إلى “البرازيل”، حيث مات منتحراً في عام 1942 عن (61 عاماً)، وفي العام التالي لموته 1943 نشرت سيرته الذاتية بقلمه بعنوان “عالم الأمس».

يبرز في حياة “زيفايج” أمران، الأول أنَّ هذا الرجل كأنه بلا وطن، ولكنه بالوقت نفسه ينتسب إلى العالم كله، فقد عاش في (فيينا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وكندا والمكسيك والهند وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا وأفريقيا وفلورنسا وأخيراً البرازيل التي قرر أن يُنهي حياته فيها مع زوجته وكلبه في يوم واحد فيها).

هذه الدول أقام بها الروائي “زيفايج” ولم يمر بها مرور الكرام كما يقال، فكل بلد أقام فيه عدة سنوات عدا الهند التي أقام بها سنة كاملة، وفي كل بلد كان لديه السبب للسفر إليه، وكان لديه فيه أصدقاء وصديقات ومعجبون ومعجبات.

الأمر الثاني: لماذا انتحر “زيفايج”، ربما يكون السبب أنَّ الرجل كان رقيقاً شفافاً، محباً للسلام، كارهاً للعنف والحروب، ولكل ما فيه شر للإنسانية، لذلك وضع حداً لحياته في مدينة بتروبوليس بالبرازيل في عز الحرب العالمية الثانية، فهو لم يستطع أن يتحمل صعود النازية والفاشية في أوروبا، فكان أن قتل نفسه عن طريق تجرع السم الزعاف ليلة 22 فبراير (شباط) 1942، وكان “زيفايج” غنياً ومن أبناء الأثرياء، لذلك انتقده بعض الكتّاب والأدباء في عصره، بأنه ضعيف لا يقوى على مواجهة المحن، يقول هو عن نفسه: (كنت قد وُلدت عام 1881 في أحضان إمبراطورية كبيرة وجبارة، ولكنني أُجبرت على تركها يوماً ما وكأني مجرم، كل أعمالي الأدبية في لغتها الأصلية (الألمانية) أُحرقت وتحولت إلى رماد (على يد النازيين)، وبعدئذ أصبحت مشرداً غريباً في كل مكان، أوروبا ضاعت بالنسبة لي، لقد كنت شاهداً على أكبر هزيمة للعقل في التاريخ.

والسبب هو طاعون الطواعين والداء العضال: عَنيتُ التعصب القومي الشوفيني الأعمى، لقد سمّم تلك الزهرة المتفتحة اليانعة للثقافة الأوروبية. 

(هذا ما قاله ستيفان زيفايج في تلك الأيام العصيبة التي شهدت صعود هتلر والنازية، بدءاً من عام 1933، لذلك جاءت وصيته مكتوباً فيها:

(قبل أن أغادر هذه الحياة بمحض إرادتي وبكامل قواي العقلية والنقلية أشعر بالحاجة إلى أداء واجب أخير: إرسال أعمق آيات الشكر والاعتراف بالجميل إلى دولة البرازيل التي احتضنتني بعد أن انتحرت أوروبا؛ موطني الروحي، ولكن بعد ستين سنة من العمر تلزمني قوى خاصة جبارة لكي أستطيع بناء حياتي من جديد، وأنا استنفدت قواي بسبب سنوات التشرد الطويلة في البلدان والدروب، لهذا السبب أعتقد أنه من الأفضل أن أضع حداً لحياتي، ورأسي عالية مرفوعة.

أخيراً أحيّي جميع أصدقائي وأرجو لهم أن يلمحوا أول خيوط الفجر بعد كل هذا الليل المدلهم الطويل، أما أنا فقد نفد صبري، ولذلك قررت أن أرحل قبلهم)، ونزل خبر انتحاره كالصاعقة على الأدباء والكتاب والأصدقاء في ذلك الزمن، ولم يصدقوه في بداية الأمر، (كيف يمكن أن ينتحر كاتب شهير طبقت سمعته أرجاء العالم الأربعة؟

بعضهم شتمه تقريباً، أو هاجمه بقسوة منقطعة النظير.

نذكر من بينهم الكاتب الفرنسي الشهير جورج برنانوس، والكاتب الألماني الذي لا يقل شهرة توماس مان.

كان جورج برنانوس الذي يعيش في البرازيل أيضاً قد استقبل في مزرعته ستيفان زيفايج قبل أربعة أيام فقط من انتحاره، وقد وجده كئيباً جداً، وربما منهاراً فاضطر إلى تقويته ودعم معنوياته، لكنه ما كان يعلم أنه وطّن نفسه على الانتحار، ولذلك عندما سمع بالخبر قال ما معناه: هذا عمل شائن، هذه عقلية انهزامية لا تليق بمثقف كبير وذلك لأنَّ الكاتب الكبيرــ كما يرى زملاؤه ـــ مكلف برسالة سامية في الحياة هي أن يدل الآخرين على الطريق، إنه منارة للآخرين، ومن ثم لقد أخل ستيفن زيفايج بواجبه بوصفه كاتباً تجاه ملايين القراء الذين كانوا يتابعونه ويحبونه ويتخذونه مثالاً وقدوة.

علاوة على ذلك فإنَّ الانتحار لا يجوز إطلاقاً في هذه الأزمنة العصيبة التي نعيشها.

الكاتب الحقيقي، المفكر الحقيقي، لا ينهزم من الساحة في عز المعمعة ولا يتركها للأوغادــ كما قال “برنانوس”، وإنما (يصمد ويشجع الآخرين على الصمود، ثم يقول إنَّ انتحار زيفايج يتجاوز حالته الشخصية نظراً لشهرته العالمية، ولهذا السبب يختتم الكاتب الفرنسي الشهير كلامه قائلاً: لا عذر لستيفان زيفايج ولا تفهم ولا تفاهم لعملية انتحاره، لقد وجه ضربة موجعة لقضية الحرية التي تناضل بكل ضراوة ضد النازية.

ما هكذا يفعل الكُتاب الكبار يا ستيفان زيفايج!).

أما “توماس مان” فقد كان رد فعله أكثر قسوة وأكثر عنفاً وتعنيفاً، لقد انفجر بالغضب انفجاراً عارماً عندما سمع النبأ قائلاً ما معناه (عار عليك، لماذا فعلت ذلك؟

لماذا ارتكبت تلك الخطيئة العمياء التي لا خطيئة بعدها، يا لها من عقلية انهزامية، يا لها من عقلية أنانية، يا له من خور وجبن، عيب على الرجال، الكُتاب الذين عضّهم الجوع من أمثالنا يحق لهم أن ينتحروا يا ستيفان زيفايج، أما أنت، شخص مليونير وينتحر، والله شيء مخجل، لكنَّ الأخطر من ذلك هو أنَّ توماس مان راح يشكك في مصداقية الدوافع التي ذكرها زيفايج في رسالته، ففي رأيه أنَّ هذه الرسالة ناقصة جداً ولا تعطينا السبب الحقيقي لانتحاره، وهو يعتقد أنَّ هناك أسباباً شخصية للانتحار، ولكن المدهش والمحير هو كيف استطاع “زيفايج” أن يقنع زوجته ذات الأربعة والثلاثين عاماً بالانتحار، ولم يستثنِ كلبه أيضاً، أليس هذا انتحاراً رومانسياً تراجيدياً.