الحياة بعيداً عن شعارات الأدب

ثقافة 2023/02/01
...

البصرة: صفاء ذياب


منذ بدايات التاريخ الأدبي انطلقت شعارات كثيرة حول الأدب وعلاقته بالكاتب والحياة، فمثلاً مثّل شعار (الشعر روح الحياة) أو (الحياة من دون أدب صحراء قاحلة) أو مقولة بعض الكتّاب (نحن نتنفس الفنّ والإبداع)، وغيرها من الشعارات التي رافقتها أقوال حول الأدب والالتزام وغيرها….

هذه المقولات المتداولة في كل لقاء مع أديب أو فنّان، تشعرنا بالتزام هذا بهذه المقولة، أو ذاك الفنان، بأنَّ حياته من دون الإبداع ناقصة ولا يمكن العيش من دونه، لكننا في الوقت نفسه نرى التناقض واضحاً بين تصريحات هذا الأديب أو الفنان ذاك وبين سلوكه وحياته التي يعيشها بين الناس. 


التساؤل الأهم الذي يمكن أن يغيّر من رؤيتنا: هل شكّلت هذه الشعارات تقاليد ثقافية غيّرت من نظرة المتلقين للآداب والفنون؟

فالمنظمات الثقافية التي تستند أغلبها إلى مقولات كهذه تقوم على هيكلية تنظيمية كان عليها ألا تغفل أيّاً منها، أو تتخلى عنها، وبالتالي ستؤسس لبنى ثقافية تحتية يستند إليها من لديه رغبة في الدخول إلى هذا المجال، مبدعين وقرّاء، ومن ثمّ تكون ما الذي سيحدث لو ابتعدنا عن مقولات لا نطبقها في الغالب؟

فهل فعلاً إننا نؤمن بالشعارات التي يطلقها الأدباء منذ القدم حين يتحدثون عن الأدب والفنون، ونطبقها في حياتنا اليومية؟


تجارب فردية 

يرى الروائي الجزائري عبد الرزاق بوكبّة أنَّ الثقافة العربية كانت وما تزال قائمة على الميل إلى تكريس التقليد أكثر من تشجيعها للفرادة، انسجاماً منها مع طبيعة البنية السياسية والدينية السائدة في الفضاء العربي، حيث القول ما قال الحاكم أو شيخ القبيلة والفقيه. 

من هنا، كان ولا يزال في الحقل الثقافي والأدبي من نصّبوا أنفسهم أو نصّبتهم المنظومة شيوخاً وأمراء أدبيين، فراحت بعض مقولاتهم تفرض نفسها بصفتها أيقوناتٍ تشكل أحكاماً تحمل صفة “الصائب بالضرورة”، في حين أنّها مجرد أحكام هي ثمرة لتجارب شخصية، بالتالي فهي نسبية بالضرورة ولا ترقى إلى أن تكون قاعدة. 

إنه من علامات نضج الذات الكاتبة أن تتحرر من كل قاعدة تضعها في خانة التابع، حيث تتعامل مع كل قيل من طرف ذوات كاتبة أخرى مهما كانت مكرسة ومشهورة، بصفتها تجارب شخصية غير قابلة للتعميم، وتتعامل معها بمنطق “هم رجال ونحن رجال”. أي إنَّ لهم تجاربهم ولنا تجاربنا.



الاشتباك مع المجتمع

يشير الناقد المصري الدكتور خالد عاشور إلى أنَّ الأدب في معظمه سواء كان قصة قصيرة أو رواية أو شعراً أو أي نوع آخر ما هو إلا صورة من صور التعبير الإنساني عن المجتمع.. فالمجتمعات تنتج أدباً يكون معبراً عنها في الكثير من الأحيان.. أما شعارات الأدباء فهي في أغلبها تنبع عن رصد للمجتمع ذاته وتتوقف على نوع الأديب الراصد.. فالأديب القريب من المجتمع لا تكون شعاراته مثالية كغيره من المكتفين بالكتابة عن المجتمع من دون الاشتباك معه.. فأديب كنجيب محفوظ وسيناريست كوحيد حامد تنبع كتاباتهم الواقعية من الحياة الحقيقية لناس رأوهم وكتبوا عنهم من دون شعارات مثالية.. أما ما يكتب من دون الاشتباك مع المجتمع فتكون شعاراته فضفاضة بعيدة عن الواقع.. الأدب والفنون عموماً نتاج المجتمع ذاته ومؤشر على مدى ثقافته وتطوره من ناحية الحرية والعلم والثقافة والصحة.. ما دون ذلك فالإيمان بالشعارات الأدبية التي يطلقها الأدباء لا تتعدى حبراً على ورق إذا لم تكن نابعة من كاتب أو أديب أو فنان عايش المجتمع وكتب عنه بحرية وواقعية.. ولن تجد أديباً أو مثقفاً أو فناناً قادراً على تطبيق الشعارات التي يؤمن بها كلها أو يقرؤها أو يكتبها.. وتتوقف على تغيرات المجتمع ذاته.. على المستوى الشخصي لا أؤمن بشعارات كتبت في أوقات وظروف اجتماعية لا تناظر ما يعاش اليوم.. فلكل وقت ومكان ظروفه.. والإيمان المطلق بالشعارات لن يؤدي إلا إلى العيش في يوتوبيا مجتمعية لا توجد على أرض الواقع لمن يؤمن بها ويستيقظ على ديستوبيا يراها لا توافق إيمانه بالشعارات. 


البحث عن الحقيقة

ويوضّح الروائي شاكر الأنباري أنَّ المثقف، سواء كان أديباً أو فناناً، يسعى لامتلاك رؤية متماسكة عن الحياة، تساعد في تكوينها التجربة الشخصية والثقافة العميقة والجادة، ولا يجسد رؤيته تلك عبر شعارات سريعة، ومقتضبة، إنما عبر نتاج واعٍ، ومبدع، يعكس تلك الرؤية. والمثقف الحقيقي يجاهد دائماً للوصول إلى انحياز واعٍ إلى أفق المنطق، والعدالة، والتحضّر، برسالة ترفع من سوية مجتمعه، وتقف موقفاً صلباً ضد الظلم، والخرافة، واستغلال البشر ذهنياً، ومادياً. 

ويضيف: المثقف الشعاراتي عادةً ما يوظف أدبه وفنه لخدمة طبقة حاكمة، أو نظرية إيديولوجية، أو طائفة دينية، أو متنفذين يسعون للهيمنة والتسلط. وغالباً ما يكون المثقف الشعاراتي غوغائياً وسطحياً ولا يمتلك صوته الخاص، وهو يرضى بالواقع القائم مهما كان سيئاً، أو مقيتاً، ما دام ذلك الوضع يلبّي طموحاته في الرفاهية، والوجاهة، والمناصب.

وعلى الصعيد الشخصي لا أميل إلى اختصار التجربة بالشعارات والمقولات، وأعيش الحياة برؤية واضحة ومسؤولة، أوصلتني إليها ثقافتي وتجربتي في مسيرتي الإبداعية. ومهنة الأدب والفن، عموماً، مهنة شاقة تسير باتجاه معاكس لنمط الشعارات، والاختصار، والتبسيط. والمثقف الجاد، والفنان المبدع، باحثان دائماً عن الحقيقة والجمال، وهو منطق لا يتسق مع الشعارات الجاهزة، أو المقولات المعلبة.


إرهاب المصطلحات

ولا يطيق الروائي والصحفي الأردني خالد سامح أبداً فكرة حصر الأدب والفن بتعريفات نمطية يحاول البعض فرضها، أحياناً، مسمياً ذلك «إرهاب المصطلحات»، يمتد ذلك للشعاراتية الفجة التي لطالما طفح بها الأدب والفن في ظل الإيديولوجيات، ليس في عالمنا العربي فقط، إنما أيضاً في الكثير في مجتمعات أخرى حكمتها سلطات عقائدية قمعية، سعت لتوجيه الفن وحصره في ما يخدم فكرة معينة. 

ويرى سامح باختصار أنَّ الإيديولوجيا سجن للعقل الإنساني ويتعجب كيف يختار الكثير من الأدباء والفنانين هذا السجن ويتبنون شعاراته في أعمالهم.

مضيفاً: سيقول البعض، أوليس الفنان والأديب مثل أي إنسان، من حقّه أن يعتنق توجهاً فكرياً معيناً (سياسياً، اجتماعياً، ثقافياً،...إلخ)؟

سؤال محق، لكن أن يصبح النتاج الإبداعي مجرد صدى لذلك التوجه، والتخلي عن الاشتراطات الإبداعية في الأدب والفن والحرية في طرح الأسئلة وإثارة التفكير، لصالح الفكرة الجامدة و”الالتزام” بقضية ما، فهذا– لا محالة- سيفقد الإبداع (شعراً، سرداً، مسرحاً، سينما، تشكيلاً...إلخ) دوره وأهميته ومحوريته في الارتقاء بالذائقة الجمالية أولاً، والتحريض على التفكير الحر ثانياً،.. باختصار: “الإبداع إبداع... والقضية قضية ويجب على المبدع أن يعي الحدود الفاصلة بينهما». 


عالم مفتوح

ويختتم الروائي تحسين كرمياني حديثنا، مبيناً أنّه ربما هناك بيانات وجماعات روّجت لأدب مختلف، أي كسر التقليد وفتح آفاق جديدة في عالم الأدب وسائر الفنون، منجزات أدبية وجمالية تواكب حركة الحياة ومتطلباتها، يمكننا أن نستحضر تيارات كثيرة ظهرت مثل الواقعية وما بعد الحداثة، في فرنسا ظهر تيار الرواية الجديدة، وجماعة البووووم الشهيرة وعرفوا بالواقعية السحرية في أميركا اللاتينية وجماعة ألمانيا وووو..إلخ. أصبحت اليوم مدارس رائجة تمنح الأدب خصوصيات التحديث وتفجير المخيلة، بطبيعة الحال الأديب متلقٍ قبل أن يكون مُنتجاً، التأثيرات لابد منها، تتداخل وتتشكل فينا، يجب صهرها بحذر وصبها في قوالب ذات خصوصية، قبل أن تجرفنا وتسقطنا في حوض التقليد، التنوع في القراءة والنهل من معين تراثنا وتاريخنا وطبيعة مجتمعنا ومتغيراتنا الحياتية لابد التعامل معها بحساسية صادقة، الشعارات كانت توجهات نحو الخروج من دائرة الرتابة، الأديب كائن حسّاس، يتأثر بالخروقات المجتمعية، بالكوارث البشرية كالحروب والسياسات المنغلقة، لابد أن يصدح صوته بما يراه مخارج تؤدي إلى عالم مفتوح، فتولدت التيارات الأدبية والدعوات والشعارات لهدم القديم وبناء صروح حديثة.