جيسلاف بيكزينسكي.. سادن جحيم السوريالية

ثقافة 2023/02/01
...

محمد طهمازي

يقول دانتي أليغييري في جحيمه: «أنا لم أمُت ولم أكُن على قيد الحياة أيضاً، حاول أن تتخيل، لو استطعت، أن تكون هناك، محروماً من الحياة والموت في آن واحد». إنها لمنطقة مرعبة تلك التي يمكن أن يعيشها الإنسان قابعاً بين الحياة والموت ولا يتمكن من أن يحظى بشيء منهما، فما بين الحياة والموت يقف الجحيم فقط!.
اشتغل بيكزينسكي على ما يسمى غالبا بأسلوب «الباروك» أو «القوطي»، على الرغم من بصمة «السوريالية المظلمة» التي يمكن رؤيتها بوضوح على طول طابور أعماله الكثيرة التي خلق فيها صورًا مظلمة برؤية مشبعة بالتشاؤم لما بعد نهاية العالم.

 برغم أن من كتبوا عن البولندي جيسلاف بيكزينسكي نحوا به صوب السوريالية لكنهم لم ينتبهوا للخلفية التاريخية والبيئية البولندية التي جاء منها هذا الرسام لا سيما فترة الحرب العالمية الثانية يوم تقاسم الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية بلده بولندا وجعلا منها ميدانا للمقابر الجماعية والإعدامات لفصائل من جيشها ومعارضي الاحتلالين، جثث لا تزال تنام لليوم تحت أرض الدم لتمر فوقها أجيال قد تنسى لكنها لن تنتزع عالم الموت والرعب من مخيال لاوعيها ولا بد لهذا المخيال من أن يعبر عن نفسه بشكل أو بآخر.. وهذا تصدح به لوحة الجنود المكبلين حيث حفر جيسلاف قعر العالم، في مشهد يشبه يوم القيامة، ليخرج جثثهم التي لا تزال مكبلة الأيدي من الخلف وقد أداروا ظهورهم بقامات منتصبة لم تنحن لرصاصات المصير الظالمة.. كانوا غابة يخيّم عليها السكون الأبدي.. وبرغم كون السوريالية تعني في معناها الأقرب « الفوق واقعية الواقع» بيد أن الواقع هنا كان فوقها ... حتى أنك لا تعرف إن كان الضوء الأصفر الذي في أفق وادي الموت هذا يجعلك تشعر بالأمل والسلام القادم أم بسيادة الخوف والحزن على كل الكائنات.

“في منتصف طريق حياتنا

ألفيتنا في غابة معتمة

لقد ضل عنا طريق الصواب!”.

الغابة المعتمة في نص دانتي هي رمزية تعبّر عن الآثام والأخطاء التي يرتكبها الإنسان في فترة من حياته يسودها التخبّط الفكري نتيجة فقر في الوعي والتجربة، لكن سرعان ما يستعيد السيطرة على حياته ويحاسب نفسه عليها بين نفسه ونفسه ثم يتجاوزها.. كذلك حيوات الشعوب والأمم التي لا بد لها من أن تمرّ بهكذا مرحلة أو مراحل تكابر فيها لكنها في النهاية ستعرف ما اقترفت أيديها وتنفض عنها رماد تلك الحقب، لكن لا بد لها من عهد من الاكتئاب وهذا ما يجسّده بيكزينسكي كثيرًا في لوحاته بتفاصيل معقّدة للغاية مليئة بالصور السوداوية للأشكال البشرية والمخلوقات التي اهترأت أجسادها (كالذئبة التي ترمز إلى الشره والجشع، والكائنات الممسوخة إلى ما يشبه الحشرات ويرمز بها لتحوّل البشر إلى طفيليين يهيمون على وجوههم) والقامات الوحشية الشاهقة التي تقف في قمّة الموت وتظن أنها لا تزال حيّة.

 يقول لويس بونويل: « التفكير بالموت مألوف لديّ، ويشكل جزءاً من حياتي منذ أن كانت الهياكل العظمية تتنزه في شوارع كالاندا في مواكب الأسبوع المقدس، ولم أرغب أبداً في تجاهله أو نفيه، لكن ليس هناك شيء هام يمكن أن يقال عن الموت عندما يكون الأمر متعلقاً بملحد مثلي، سيموت من الغموض. أحياناً أقول لنفسي إنني أود أن أعرف، لكن، أعرف ماذا؟ ليس هناك ما يُعرف عن الموت، لا خلاله ولا بعده. بعد الـ (كل شيء) هناك الـ (لا شيء) …، لا شيء ينتظرنا سوى التعفن، تلك الرائحة الحلوة الأزلية!»..

حفر البولندي جيسلاف بيكزينسكي لنفسه اسمًا في ذاكرة الفن عبر أكثر من ثلاثمئة من لوحاته المختلفة والمخيفة التي لا همّ لها سوى نقلنا إلى ما بعد نهاية العالم والمخلوقات القادمة من أعماق الكوابيس.. كان يردّد دائمًا “أتمنى أن أرسم بطريقة كما لو كنت أصور الأحلام..” وهذا بالضبط ما يراودك عندما ترى أعماله من الوهلة الأولى، على الرغم من أنها تستخدم أشياء من حياتنا اليومية يمكن تمييزها كالكرسي وآلات النفخ الموسيقية، إلا أنها تقترن هنا بمعانٍ أخرى ضمن طرقٍ معمارية في تشكيل اللوحة، لتُظهر انتماءها لعالم من الكوابيس والعذابات والضياع، لربما كان هو حقيقة عالمنا ذاته، حقيقة تقول لك إنه لا أقسى من حياتنا ولكن ما من خيار آخر أمامنا.. سيناريوهات من عالم اللاوعي تؤسس لحقائق مختلفة تضع عقل الواقع في حيرة وقلق من المستقبل لا من الماضي فحسب.

يؤكّد لنا جيسلاف في لوحة المسيح الذي تهرأ جسده فوق صليبه أنه يمتلك رؤية بعيدة المدى وتصوّرات عميقة لانهيار القيم التي ستسحق بكل مفرداتها تحت عجلات الحرب الثقيلة، هذا الانهيار الذي لن يتوقّف عند المبادئ الأخلاقية، بل سيتعداها ليخترق هيكل الإيمان هشًّا كان أم صلبًا وينهش العقائد، مهما كان قِدمها، بلا رحمة أكثر من أيّة آيديولوجيا مضادة أو معادية للعقائد الدينية.. إن الحرب فرّامة وحشية كاسرة حادّة الشفرات قويّة الطحن لا تفرّق بين هوية الأشياء التي تبتلعها ولا بين ألوانها..

لو أمعنّا النظر في لوحة الزوجين اللذين يحتضنان بعضهما وقد انسلخ عنهما حتى الجلد وضمرت العضلات وبانت العظام، لوجدنا أنها صورة شديدة الوطأة للخوف الغائر في روح الإنسان والقلق من المصير المجهول والرعب من الفقدان.. تريك حالك حين تقف عند نقطة لا رجعة فيها، نقطة تجد نفسك عندها، بغير مقدرة على فعل شيء، بغير إرادة، بغير حيلة، منطقة تتفتّت فيها كل الروابط الخاصة والاجتماعية التي تجمع البشر، تنهار فيها كل الأعمدة وتقتلع فيها كل الأسس، منطقة اللا حول ولا قوة فيها سوى الاعتصام بمشاعر الحب الصادقة البسيطة التي تبعث في الإنسان صغائر الآمال في أشد الظروف سوداوية لكنها من الخارج تبعث على الشفقة وتثير النقمة في ذات الوقت من عبثية الحياة ولا جدواها وظلمها وانعدام رحمتها في المحصّلة النهائية!.

رسم بيكزينسكي لوحاته بتقنية محترف بارع وبأسلوب رائع ومدهش يضعها في مصافٍ متقدّمة في سلّم الإبداع بتاريخ الرسم العالمي.. بيد أن صدى كلمات الفنان الذي لقي مصرعه بشكل مأساوي يتماشى مع الحقيقة التي أراد طرحها في أعماله «ما يهم هو ما يظهر في روحك، وليس ما تراه عيناك وما يمكنك تحديده في اسم معين!».