الفلسفة والعيش المشترك

آراء 2023/02/02
...

 علي المرهج


كانت الميزة الأهم في الحضارة العربية والإسلامية في العصر العباسي، هي وجود فلاسفة جعلوا من التفكير العقلاني أساس تطور العلم العربي. لولا وجود دعم للانفتاح على علوم الأمم الأخرى المغايرة لنا في الدين والمعتقد، لما تمكن المسلمون من التقدم حضاريا. 


تأسس بيت الحكمة بالاعتماد على السريان من المسيحيين العرب، الذين جعلوا بيت الحكمة مؤسسة ثقافية لنشر الفلسفة والعلوم الطبيعية تحقق بفضل "العيش المشترك" بين أبناء المجتمع العربي بكل تنوعاته الدينية والأثنية، فتشارك الحكماء والعلماء السريان مع الفلاسفة والعلماء المسلمين، بنقل الفلسفة وعلوم اليونان وتبيئتها لتتوافق مع واقعنا الثقافي والاجتماعي.

مهمة الفلسفة عند أغلب فلاسفتنا المسلمين هي معرفة الناس طريق السعادة مع الكندي في "رسالة في دفع الاحزان"، والفاربي في رسالتية "التنبيه على سبيل السعادة"، و"تحصيل السعادة وابن سينا في كتابه "النجاة" ومسكوية في كتبه "تهذيب الأخلاق" و"الفوز الأصغر" و "الفوز الأكبر"، وأبو الحسن العامري في كتابه "السعادة والإسعاد"، وأغلب ما كتبه التوحيدي والجاحظ، ولكن كيف تخدم الفلسفة في معرفة سبل السعادة، الجواب حينما نعي أهميتها في تنمية الوعي النقدي وحرية التفكير.

ما أنتجه الفلاسفة من فكر عقلاني نقدي حر، جعل الفلسفة في خدمة الإنسان، الإنسان بما هو إنسان بمعزل عن هويته الدينية أو الأثنية، لأنها تهدف إلى النظر للإنسان بوصفه كائنا يستحق أن يعيش بكرامة، لذلك نجد مفهوم الحرية يحتل مساحة واسعة في جُل ّالفلسفات، لأن هذا المفهوم يفتح أفق التعايش مع الآخر، وفي الوقت ذاته يرفع قيمة الذات، بمعنى أن حضور الذات وفاعليتها يُعرف من خلال (آخر) يعيش معها في هذا الوجود، لذلك فوجود (الآخر) يُعد مكملًا للهويّة الذاتيّة بوجودها وأهمية هذا الوجود، على وفق ما ذهب إليه بول ريكور "الذات عينها كآخر".

وضع (كانت) في مشروعه للسلام الدائم الذي أسماه "قانون الشعوب"، وهو الضامن لتحقيق السلام الدائم بين الدول، ينبغي أن "يقوم هذا القانون على أساس نظام اتحادي بين دول حُرة" إي نظام "فيدرالي" يُبنى على أساس إنشاء "حلف السلام"، وهو يختلف عن "معاهدة السلام"، لأن من شأنه أن يقضي إلى الأبد على الحروب جميعاً، بينما "مُعاهدة السلام" إنما هي إنهاء لـ "حرب واحدة".

قد يكون في التسامح ما ينطوي على تقبل الآخر وتسكين الصراع معه لحين أو لوقت ما، وهو يُضمر مسكوت عنه، ألا وهو أن المتسامح يصفح عن الآخر من باب الكرم لا من باب تقبل وجوده على أنه شريك له في الحياة ويستحق الوجود.

الضيافة الكانتية بابٌ للوعي بوجود هذا الآخر، بوصفه نداً وشريكاً في الحياة، وتقبل وجوده بيننا بوصفه مغايرا لنا وواجبا أخلاقيا، لا منة منا عليه.

ما يُميز فلسفة هيجل أنه بيّن لنا أن الشيء من الممكن أن يُعرف بنقيضه، ولا أخوض في ثنائية الوجود منذ الزرادشتية وقولها في ثنائية (الخير والشر)، وهي ثنائية تكشف لنا عن قيمة النقيض في المعرفة، لنصل إلى هيجل وكشفه عن منطق التناقض. وقيل إن الشيء لا يُعرف إلا بضده. وأن التناقض هو وصراع الأضداد هو جوهر الوجود.

كتب (جون غيرش) كتابه "العيش في الفلسفة" وزاد عليه (لوك فيري) في كتابه "تعلم الحياة"، واستكمل الكتابة في هذا المجال المفكر المغربي (سعيد ناشيد) في كتابه (التداوي بالفلسفة)، وجل هؤلاء الفلاسفة والمفكرين حاولوا الكتابة في (الفلسفة من الخارج) بتعبير د.فتحي التريكي في كتابه "الفلسفة الشريدة"، الذي ميّز فيه بين الفلسفة بوصفها "ميتافيزيقا" ورؤية نظرية أي الفلسفة من الداخل، والفلسفة بوصفها محاولة لفهم الحياة وسُبل العيش فيها ومع "الآخر" المختلف"، لتكون "لواحق الفلسفة" أكثر فاعلية في توظيف "الفلسفة من الخارج"، أي خارج سطوة نشأتها الأولى، بوصفها مرادفة للميتافيزيقا، لذلك يعتقد (التريكي) أننا نجد في "فلسفة القانون" و"فلسفة التاريخ" و"فلسفة السياسة" و"فلسفة العلم" و"الفلسفة الاجتماعية" ما يُساعدنا على فهم معنى "العيش المشترك"، وقبول الاختلاف والتنوع في الفكر والحياة ووعي تحديات الواقع 

وتحولاته.