ثقافة الخدعة

ثقافة شعبية 2023/02/02
...

كاظم غيلان 

سرني ما كتبه د. نصير جابر في (ثقافية الصباح) بعددها الصادر يوم الأحد المنصرم عن (خدعة الهايكو) وقبله بأيام تصدى لهذه الخدعة الصديق الشاعر الكبير جليل حيدر في حوار موسع أجريته معه.

ولأن الذاكرة تكتنز بطبيعة التصدي لكل ماهو مستورد ولكل ماهو طارئ لا يخرج بأية حال عن (البدعة) التي هي في كل الأحوال ليست إبداعاً، بقدر ماهي انسلاخ عن كل ماهو أصيل، عدت لما كتبته في نهاية تسعينيات القرن الماضي في الوطن العمانية وقتذاك وكان حصيلة جلسة ضمتني بالشاعر حسب الشيخ جعفر وما جاء في إجابة عن سؤال وجهته له عن توجه ساد حينها لاقتفاء أثر الشاعر الفرنسي (سان جون بيرس) إذ لخص حسب بدقة مقترحاً لمقتفي الأثر لو قاموا بترجمة أشعار المتنبي وامرئ القيس وأبي نواس لبيرس نفسه.

ليس فينا من يعترض على اطلاع الشاعر أو المثقف على ثقافات الشعوب وتجاربها الإبداعية والتزود بما أنتجته من سائر ابتكاراتها، لكن السؤال الذي يفرض شرعيته : لماذا هذا الإصرار في النسخ والتقليد العشوائي والترويج لتجارب لا تعطي نفسها لنا إلا بذلك التعالي وكأنها تمنحنا مجداً من فضلات فتوحاتها؟.

في شعر العامية العراقية تحصل مثل هكذا خدع وتشوهات كـ (قصيدة التحشيش)! ويالها من تسمية مستلة من قاموس الرثاثة والمجانية الراكسة في قيعان مجتمعات يغلفها الجهل، وتنمو التفاهات والخرافات في عقول أفرادها.

من أين جاء كل هذا الخراب؟ من يقف خلف هكذا ابتكارات "لقيطة" لا جذور لها؟ 

كل ذلك يجري في ظل دعم إعلامي يرفع من شأن الخراب ويحيل التشوهات لمصاف الجماليات التي أشاعتها القصيدة العامية بالغناء أولا(البنفسج، غريبة الروح، بنادم، الطيور الطايرة، حن وانه احن، ياحريمه....الخ).

إن قطعاناً من المفلسين وعديمي المواهب ومراهقي الفضائيات تقف خلف ما يجري وسط تشجيع وتصفيق ودعم يفضي بالنهاية لتدمير مكوناتنا الثقافية، لكن هذا لا يعني الاستسلام والسكوت عما يحاك فتعرية هنا وفضح آخر هناك يكفيان حتماً للبرهان على وجود مقاومة حقيقية لاسقاط أية خدعة يتلقفها الذين لاعلاقة لهم أصلاً بما لدينا من تراث شعري ثقافي عريق، نهلت منه ثقافات العالم واستفادت منه تجارب الخلق الإبداعي، هذا الذي يشير دائماً لأعماق الإنسان بعيداً عن قشور التسطح والاستيراد الأعمى والنسخ المفضوح لتجارب صنعتها شعوبها التي تأنف حتى عن تصديرها لهؤلاء الذين يقيمون بيننا والذين لا يمكن لي مقارنتهم إلا بمهربي 

الآثار.

الخدعة لا تنطلي إلا على المغفلين وحدهم، الذين لاهم لهم سوى متابعة رصيد إعجابات أشباههم من سقط متاع، أما من قرأ تراثه الثقافي وأبهرته كنوزه فيظل عصياً على الخدعة.