بغداديَّات رشا سعد

ثقافة 2023/02/02
...

 إحسان العسكري


تعد الحداثة ذات الفكرة والعمل الرقمي في التشكيل من الأمور التي أضافت الكثير للفن بصورة عامة، فيما يختلف الأسلوب ومواد العمل فالفرشاة الخشبيَّة لها توأمها الرقمي وكلتاهما طوع أمر الفنان ورهن إبداعه.. وانطلاقاً من مبدأ الإيمان بالحداثة في العمل الفني والسعي لتحقيق الأهداف نفسها، لا نجد أفضليَّة للفنون الرقميَّة على سواها إلا ببعض الأمور المتعلقة بالجهد والوقت والإنتاج. وقطعاً التشكيل الرقمي لا يعني التصميم، فلكل منهما مجاله -ولا أريد تشتيت ذهن القارئ بهذه المقارنات لأنَّ موضوعي هذه المرة مختلف- إذ إن الفنانة وضعت لإبداعها نمطاً ثرياً أخذ من الواقعيَّة الكثير وقليلاً من الكلاسيكية وشيئا من التعبيرية. وهنا يكمن الفن، فسواء رسم الفنان بالريشة، أو الفرشاة، أو السكين، أو القلم، بالنتيجة نحن نبحث عن منجزه لا عن أدواته، ورشا سعد استخدمت جميع الأدوات آنفة الذكر، وأضافت لها العمل الرقمي في تشكيلة راقية شفيفة من اللوحات البغداديَّة التي تستحق التأمّل والقراءة. فهذا النوع من التشكيل ومنذ بزوغ فجره على يد جواد سليم وإلى الآن أصبح من محليَّات الفن التشكيلي العراقي المرتبط بالمكان الثابت والزمن المتغيّر. جواد سليم ومن جايله وتبعه من روّاد هذه المدرسة معظم أعمالهم جعلت من البيت البغدادي منطلقاً لقراءاتهم الفنيَّة، والبيوت في مجتمعاتنا تقودها المرأة، لذلك استُخدمت هذه الثيمة كأساس في الإخراج والتشكيل والإنتاج، فرسموا المرأة البغداديَّة بتفصيلات حياتها من البيت البغدادي إلى عملها مروراً بأدق

التفاصيل .

رشا سعد اعتمدت في لوحاتها على الهويَّة النمطيَّة لهذه المدرسة واستخدمت الألوان بطريقة نرى لها إيحاءً خاصاً وأخرى شاملة، فالأزرق، والأحمر، والأخضر، والأصفر، والألوان الخاصة بالملابس، خاصة الأسود المستخدم للشعر والعباءة العراقيَّة البغداديَّة، أو الوان كماليات وإكسسوار التجميل كالأزرق، والفيروزي السمائي، والازرق المائي، وغيرهما، جميع هذه الألوان تبعث الراحة والطمأنينة في النفس وتنقل المشاهد من محله عبر مخيلة شفيفة نحو آفاق الحياة البغداديَّة التي تديرها المرأة كما أنها ركزت على تناغم عاطفي بين العقل 

والعاطفة. 

وبالوقت نفسه لم تتخل عن بغداديتها وبيئتها فاعتمدت الأزياء البغداديَّة الأنيقة ذات الطابع التراثي بآليَّة حداثويَّة فالعباءة والوشم التراثي والمحيط وخلفيات اللوحات كل هذه الحركات تصب في مجرى الجمال البغدادي. ولم نلحظ ارتباط أعمال هذه الفنانة بالمحتوى التشكيلي البغدادي الصرف، بل إنّها ركزت على الفتاة بشكل خاص، واخضعت الفكرة لنمطيَّة حداثويَّة تمتاز برقي الرؤية ودقة الإخراج تارة، كما في لوحاتها التي تجسّد المجال التصويري المجرد للمرأة، ومخيلة راقية تارةً أخرى وهي ترسم الفتاة على هيئات تعبيريَّة واضحة، فالنخيل في رأس الفتاة له إيحاءاته العميقة ولون الدموع الفيروزي الذي ربما تريد الفنانة أن تضعه في خانة الفرح المبكي، جسّدت فيه روح المرأة البغداديَّة، وهي بهذا جمعت بين التراث والحداثة عبر ايحاءات لونيَّة باعتمادها اللون الأخضر المطلق للنخيل واستخدامه بطريقة تدعو للتأمل والتوقف، فالأمل والخصوبة ووسع أفق التفكير والنضج العقلي والرقي العاطفي ووجه فتاة بغداديَّة، جميع هذه الحركات لها ايحاءات عاطفيَّة وفلسفيَّة وتخفي خلفها أكثر من قراءة. فاذا عدنا للوحاتها نجد السلام ورمزياته والحب وإسقاطاته والأنوثة الشرقيَّة البحتة المتمثلة بألوان العيون والشعر ونمطيَّة الإخراج الفني والحركات التشكيليَّة كافة أغرقت بصورة المرأة البغداديَّة المحترمة، فتفاصيل الجسد والملابس وألوانها، وحتى المجال التخييلي لعناصر التمثيل المكاني للأعمال جميع هذه التفاصيل تأخذنا باتجاه شخصيَّة الفنانة رشا سعد فهي ابنة بيئتها المتأثرة بالأصالة الاجتماعيَّة، وكذلك مهنتها كمربية فاضلة وكاتبة شفيفة جعلت منها شخصية متزنة تشعر بالمسؤولية التربويَّة والأخلاقيَّة والإنسانيَّة؛ لذا تميزت ولم تتوقف عن نمط معين أو هوية فنيَّة واحدة، فقد رسمت بالقلم الواحد والأقلام الخشبيَّة والمائيَّة والزيتيَّة والأكريلك على لوحات، وعلى الكتب وأسهمت في إعداد القصص المصورة، ورسمت على الأواني، وصممت العديد من الإكسسوار، وأبدعت في مجالات شتى، فنالت الجوائز وحصلت على أكثر من تكريم ودخلت الموسوعة الأردنيَّة للفنون التشكيليَّة وأقامت المعارض في الجامعات وشاركت في المعارض المحلية، وقد تناولت المرأة العراقية عبر جميع انتقالاتها منذ سومر إلى يومنا هذا، فأبدعت وأثبتت أن المحليَّة هي أساس الانطلاق للعالميَّة فاحترام الفنان والمبدع لمكانه سينقله لأماكن تليق به وتعظم من عطائه.