القصة القصيرة جداً بين التجريب وتمثلات المرجع

ثقافة 2023/02/02
...

  عبد علي حسن


حظيت القصة القصيرة جداً بعدها نوعاً سردياً باهتمام لافت خلال العقدين الماضيين من الألفية الثالثة، وقد تبدى هذا الاهتمام عبر اصدار العديد من المجاميع القصصية وإقامة المواقع والمجموعات الإلكترونية وإقامة الملتقيات، فضلا عن إصدار الكتب والدراسات التي عالجت الإشكاليات الإجناسية والتوصل إلى المواضعة على الشروط البنائية لهذا النوع الذي يمتد إلى خمسينيات القرن الماضي كمكون من مكونات السرد العراقي، ولعل هذا الاهتمام وهذا الجهد التنظيري وإقبال كتاب السرد على ملء الساحة الثقافية بفيض من القصص المنفردة أو ضمن مجموعات مستقلة.


 يعود إلى عاملين، الأول هو التسارع في إقاع العصر وسرعة التحولات الاجتماعية وأهمية الأحداث التي ما انفكّت تتوالى في البنية الاجتماعية مخلّفةً مجموعة من المنظومات القيميّة والجماليّة وجدت في القصة القصيرة جدا مجالاً رحباً يتناسب وإيقاع العصر وما يمرُّ به الفرد العراقي وقابليته في استيعاب والتوافق مع الأشكال الأدبية الوجيزة المكتنزة بالمعرفة والقيم الجمالية بدلاً من المنجزات المطوّلة، وكذلك للتقدم السريع والشامل لوسائل الاتصال الحديثة التي وجد فيها القاص حريّة شاسعة للنشر عبر ما نسميه بالصحافة الإلكترونية، ونتيجة لكل ذلك فقد قَصُرت المسافة بين المبدع والممكنات البنائية والإجناسية لهذا النوع السردي، ولم يعد هنالك لبسٌ في إمكانية كتابة قصة قصيرة جداً حائزة على المواصفات الإجناسية التي تمنح هذا النوع استقلالية بنائية، ولعل من المواصفات التي تواضع عليها الدارسون هي التكثيف والايجاز وإحداث المفارقة التي تسمُ النص بالإدهاش وكسر توقّع الأفق في حدث سريع يخضع لمخيال القاص لتوفير قناعة بتميز ذلك الحدث وإمكانية بناء نص ناجح على مبررات الحدث، ووفق هذه المعايير سنقوم بمعاينة عدد من القصص القصيرة جداً المساهمة في الملتقىٰ السردي البابلي الثاني للقصة القصيرة جدا الذي ينظمه المنتدى الأدبي في الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين في بابل، إذ سنقوم  بمعاينة المنجز القصصي لخمس من القصّاصين البابليين المساهمين في الملتقى بأكثر من قصة، وهم على التوالي: سلام حربة، ومحمد جودة العميدي، وعباس الحداد، وغانم عمران،  ومنور ناهض الخياط. 

ولعل القاسم المشترك لجميع النصوص هو دخولها في منطقة الواقع العراقي ومخرجات حراكه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المعاصر، والنظر الى تلك المشكلات من زوايا متعددة ومختلفة أسلوبياً وبنائياً أحاطت بأهم ما يعتمل في البنية الاجتماعية المعاصرة، كموضوع الهجرة والتفكّك في المنظومات الأسرية والاجتماعية والشعور بالغربة داخل الوطن والخراب الحاصل في الشخصية العراقية وتحديات الوجود الوطني والإنساني وتراجع المنظومة القيميّة في العلاقات بين الأفراد بما فيها العلاقات العاطفيّة، وتحولها إلى علاقات عابرة وهامشيّة، على أن هذه السمات الموضوعية كانت انعكاساً ونتيجة لأداء المنظومة السياسية المتردي في معالجتها لمشكلات البلد منذ عام 2003 .ويمكننا من فرز منطقتين أسلوبيتين توزّعت عليها النصوص موضوع المعاينة، ففي المنطقة الأولى تمثلّت نصوص القاص سلام حربة وعباس الحداد ومحمد العميدي الواقع وفق بناء مختلف اقترب وابتعد عن التوصيفات البنائية للقصة القصيرة جدا، فقصص سلام حربة /هجرة  /حب/ ثروة/ ملهى/ بوح، قد اقتربت من مشروع القصة القصيرة، وعلى الرغم من أهمية المضامين ووجهات النظر التي تضمّنتها القصص، فقد كان بالإمكان تكثيف وايجاز السرد فيها لتتمكّن من تقديم قصة قصيرة جداً ناجحة ومؤثرة، فقصة (هجرة) تعالج واحدة من التحديات التي تواجه الشخصية العراقية المعاصرة وتكاد تلقي ظلالها على الشارع العراقي وتكشف عن حجم العلاقة المتوترة بين الشخصية العراقية والنظام الاجتماسياسي، ويؤكد النص على لا جدوى الهجرة من الوطن لأن الغربة موت وابتعاد عن عوامل وجود الإنسان، وعبر الترميز الموازي بين موت الانسان في غير وطنه وبين فسائل النخلة التي لم تجد البيئة المناسبة لنموها، يصل النص إلى أن الهجرة عن الوطن يعني فقدان للهوية، وفي قصة (ثروة) يفترض النص العلاقة الملتبسة والمتقاطعة بين صديقين الاول تاجر والثاني مثقف ويحاول التاجر شراء ثقافة المثقف الذي تضطره الحاجة إلى المأكل إلى بيع ثقافته لصديقه التاجر ليحرفها عن مسارها الموضوعي وليتقنع بها في تحقيق مآربه الدنيئة، وعلى الرغم من أهمية هذه الموضوعة على المستوى الإنساني في كل المجتمعات البشرية ومنها مجتمعنا المعاصر حيث نشهد نوعاً لشراء الذمم الثقافية، الّا أن المعالجة السردية وحيثيات بناء الحدث لم يكن متناسبا مع أهمية الموضوع الذي يتطلب معالجة أكثر اقناعا، فضلاً عن افتقار النص الى تخليق الحبكة والتكثيف والمفارقة، وكذلك الأمر بالنسبة للقصتين “ترقب” و”حمام” للقاص عباس الحداد، فقد كانتا قصتين قصيرتين بامتياز وفق بنائية القصة القصيرة، إذ إن الامتداد السردي والوصف الفائض الحاصل في القصص التي أشرت إليها آنفا قد أبعدها بنائياً عن توصيفات القص القصير جداً، ففي قصة (ترقب) يكشف النص عن حجم العلاقة الهامشية والباردة بين الجد والجدة من جانب والاولاد المتزوجين من جانب آخر، وقد أبدت هذه الهامشية عبر دعوة انتظار الجد والجدة لأبنائهما بمناسبة أحد الاعياد، إلّا أن اليوم ينتهي من دون أن يحضر أحد من الأبناء الذين اكتفوا بتقديم التهاني عبر الهاتف، أما قصص محمد جودة العميدي الخمس، فقد رصدت حالات اجتماعية وسياسية منظورة على المدى القريب من ذائقة المتلقي، وعلى الرغم من التزامها بآليات التكثيف والايجاز إلّا أنها كانت ذات دلالات مباشرة ولم تتمكن من كسر توقع الأفق الذي يُعوَّلُ عليه كثيراً في نقل النص القصصي الى منطقة المفارقة.

   ففي قصة (درس) حاول النص توكيد فكرة الحفاظ على البيت من كل عابث، وهو درس بليغ، إلّا أن المعالجة السردية تماهت وبساطة الحدث، إذ أن ردّ فعل الطفل حين قام بتهديم المكعبات هو رد فعل طبيعي لفعل السارد، ومتطابق مع توقع أفق التلقي، ولا مبرر الجملة الأخيرة التي أشارت إلى وعي الطفل للدرس، كما أن رد الفعل هذا برفض أي يد عابثة ببيته إنما هو غريزي ينسجم وحرص الطفل على الحفاظ على ممتلكاته، وبمعنى آخر أن الطفل لم يتلقَّ الدرس من خارج غريزته كما نوه النص، وفي قصة (نفاق ديني) فإنَّ الوصول إلى دلالة النص واضحة ولم تذهب باتجاهات مختلفة واحتفظت بما هو مشترك في التأويل باختلاف القراءات، كما أن التدخل في صناعة الحدث واضحة، إذ كيف صادف وجود عش العصفور قريباً من الشخصية الذي أنهى صلاته بالدعاء جالساً؟ وعلى الرغم من التقاطع بين الفعلين، الدعاء/ العبث، الذي شكّل مفارقة النص الذي انطلق من الدلالة إلى بناء الحدث، فإن النص كان بحاجة إلى توفر القناعة بصحة وقوع الحدث وإن كان متخيلا.

أما قصص غانم عمران الخمس فقد نحت صوب تجريبية باتجاه الترميز سواء على مستوى الحدث واللغة، باستخدام تقنية التناص التي بدت واضحة في النصين (نقص) و (كليبتوقراطية) حيث اتكأ الاول على مقولة برنارد شو (كل منا يبحث عن ما ينقصه) والثاني على مقولة شكسبير الشهيرة في مسرحية يوليوس قيصر (حتى انت يابروتس)، وفي الوقت الذي بدت فيه القرينة الدلالية المرمّزة واضحة في النص الأول الذي ذهب إلى توكيد خطل الأقلام المأجورة، فإنَّ الدلالة في النص الثاني بدت بعيدة عن مجريات الحدث المتخيّل الذي شهد تقافزاً في سرده، وهذه الملاحظة تسري على سائر نصوص غانم الأخرى، فليس هناك تتابع سردي منطقي ومبرر، فضلاً عن الحكم الجاهز الذي ختم به سائر النصوص والذي لم يحقق المفارقة المرجوّة، فقد سَعَت جميع قصص غانم عمران الىٰ وضع خاتمةٍ ترتبط بتقدم الحدث متَّخذةً وضع النتيجة المستخلصة من مجريات الأحداث، وبذلك فقد اقتربت من بنائية النهايات المعتمدة في كتابة القصة القصيرة. وتجدر الإشارة إلى اهتمام القاص غانم عمران بالعنوان بعدّه بنية دلالية في جميع قصصه.

أما قصص منور ناهض الخياط الخمس فقد لجأت الىٰ تمثّل الواقع لتخرج منه بترميزية عالية وبسرد متّصل اجتهد في تخليق المفارقة، ففي قصة (ساعي البريد) يرصد النص حالة إنسانية تكشف عن حجم معاناة الشخصية من الإهمال وعدم التواصل، ففي الوقت الذي كان فيه يوزع الرسائل كدلالة للتواصل بين الناس، فقد كان يبحث عن من يبعث له رسالة شوق والسؤال عنه، وقد كان بالإمكان إيجاز النص وتكثيفه أكثر مما بدأ، ليتم التركيز على رصد حالة التناقض بين مهنة الشخصية وماتعانيه، وفي قصة (طعم) فإن النص يخلق معتدلاً رمزياً لحالة الخوف وعدم الاطمئنان من سلامة الوجود الإنساني والتعرض إلى محاولات إقصاء هذا الوجود، لقد تم التمثل الترميزي لحالة الخوف هذه عبر حدث متخيّل للتحوّل الحاصل في تفضيل اللحوم طعماً للسمك وأثر هذا التحول الذي تبدّىٰ في نهاية النص التي أعربت فيها الشخصية عن مخاوفها للطفل من هجوم أعداد كبيرة من الأسماك متجهة صوبها، أن هذه الرؤية القلبية المتصورة من قبل الشخصية لم تسهم في تخليق المفارقة المتضادة للحدث في قسمه الأول، بل تماهت معها وفق تجريبية تداخلت مع تقنيات نهايات القص القصير .

وإجمالاً فإنَّ النصوص القصصيَّة التي تمت معاينتها اختيارا وكذلك النصوص الأخرى قد كشفت عن فهم متقدّم لطبيعة القص القصير جداً الإجناسيَّة، فإن قَصرت عن آليّة فإنّها قد تمكنت من الآليات الأخرى التي تُعدُّ من أركان هذا القص كالتقاط الحدث العابر والتكثيف والمفارقة والتناص والدخول الى منطقة الترميز على سبيل التجريب، كما كشفت النصوص عن التوجه لتمثل حراك الواقع العراقي المعاصر ومعالجة مشكلات الفرد العراقي ومعاناته، وهي سمةٌ مشتركة لجميع النصوص القصصيَّة التي تشير إلى إمكانية القاص البابلي للدخول في مضمار كتابة القصة القصيرة

جدَّاً .