شوقي بغدادي.. رحيل آخر عُشَّاق دمشق

ثقافة 2023/02/02
...

 رولا حسن


رحل شوقي بغدادي الشاعر الجميل تاركاً دمشق التي أحبها خلفه بأزقتها القديمة وشوارعها ومقاهيها ولياليها السمراء الساحرة. رحل شوقي بغدادي عاشق آخر من عشّاق دمشق، كما رحل قبله عادل محمود، والخيبة مما حدث للبلاد تأكل روحه الرقيقة كأنسام البحر الذي جاء منه.ولد بغدادي في بانياس المدينة السوريّة الواقعة على ساحل المتوسط والتابعة إداريا لمدينة طرطوس في 26 تموز عام 1928 وتدرج في تحصيله العلمي بين مدارس اللاذقية، وطرابلس، ولبنان، قبل أن يكمل تعليمه الجامعي في دمشق، حيث حصل من جامعتها على اجازتين واحدة في اللغة العربية وأخرى في التربية عام 1951. وهو واحد من الذين ارتبطوا بدمشق ارتباطاً روحيّاً لم ينفصم إلا بالموت، راصداً خلال حياته مراحل خرابها وتخريبها على أصعدة مختلفة.تميّز بغدادي بحساسيَّة شعريَّة مختلفة كثيرا، وإن بدأت بهمٍّ اجتماعي لكنها نحت نحو نزعة وجدانيّة بالغة الرقة بعيداً عن المنابر والمنصات.

ارتبط اسمه في المشهد الثقافي السوري من خلال دوره في تأسيس «رابطة الكتاب السوريين» عام 1951 إلى جانب حنا مينة وحسيب كيالي وصلاح دهني وفاتح المدرس وسعيد حورانية وآخرين قبل أن تحمل الرابطة اسم «اتحاد الكتاب العرب».أصدر بغدادي في عام 1954 مجموعته القصصية الأولى بعنوان «حينا يبصق دما»كان قد أصدر قبلها مجموعة قصصيّة مشتركة بعنوان «درب إلى القمة» 1952.بعدها سيتجه بغدادي نحو الشعر ويلتحم به ليصير واحداً من أهم الشعراء الوجدانيين في المشهد السوري المعاصر ومن أبرز الوجوه الثقافية السورية التي لعبت دورا مهما في تشكيل ما يسمى مشهد ثقافي سوري حقيقي.في عام 1962 أصدر بغدادي ديوانين «قصة حب»، و»وأشعار لا تحب» عام 1968، قبل أن يسافر إلى الجزائر لمدة أربع سنوات، فيما تلى ذلك رسم بغدادي مشروعه الأدبي والشعري بطريقة أكثر وضوحا، فأصدر مجموعات شعرية عديدة من بينها: «بين الوسادة والعنق 1972»، و»ليلي بلا عشاق 1979»، و»قصص شعرية قصيرة جدا1981»، و»كم كل بستان 1982»، و»شيء يخص الروح 1996»، و»البحث عن دمشق 2002»، و»عصفور الجنة 1982»، وهي حكايات شعرية للأطفال.أما في مجال النقد والدراسات فلم يكن بخيلا حيث أصدر «قديم الشعر وجديده 1986»، و»عودة الاستعمار: من الغزو الثقافي إلى حرب الخليج 1992». ولكنه في ذات الوقت لم يتوقف عن كتابة القصة، ونشر رواية واحدة بعنوان «المسافرة 1998». وكان قد أعلن قبل أعوام من وفاته عن إنجازه مجموعة شعرية، تشمل القصائد التي كتبها عن الحريق السوري، ونشرها في جريدة السفير اللبنانية تحت عنوان «جمهورية الخوف».في عام 2021 أصدر آخر دواوينه بعنوان «بعد فوات الأون»

استهلها بقصيدة تحمل ذات العنوان:

«سأعتذر الآن، بعد فوات الأوان 

أنا لم أجدد حقولي، ولم أتفق والزمان 

وحين عشقتُ النساء وكنتُ صغيرا،

تركتُ حصاني ولم أكُ ممن يُجيدون ركب الحصان،

كبرتُ على ظهر قافلةٍ صنعتْ شاعراً كبيراً ورمتْ آخر 

فتخليتُ عندئذٍ أنّني أحمل الصولجان ......».

في حياة بغدادي الكثير من التكريمات والجوائز منها الجائزة الأولى للشعر والقصة القصيرة من مجلة النقاد الدمشقيَّة، وجائزة اتحاد الكتاب العرب لأفضل مجموعة شعرية عام 1981، وجائزة البابطين للإبداع الشعري عام 1998.كان آخرها حصوله في عام 2020 على جائزة أحمد شوقي الشعرية الدولية في دورتها الثانية، ووصفته لجنة التحكيم بأنه «شاعر له صوته الفريد والخاص، يبحث نصه عن قيم الحرية والعدالة».

 شكل بغدادي علامة فارقة في المشهد السوري الثقافي المعاصر، إذ يعدُّ ذاكرة سياسيّة وثقافيّة حاضرة، فقد اهتمَّ منذ بداياته بالقضايا الكبرى وانحاز إلى الإنسان في البحث عن العدالة والحرية.

وهو ما يؤكده الشاعر السوري عبد القادر الحصني في مستهل حديثه عن تجربة بغدادي: «إنَّ تجربة الشاعر شوقي بغدادي عبرت عن نفسها بمنحنين كبيرين عملا على تكاملهما، حيث أخذ المنحى الأول طابع المواجهة السياسية، انتصارا للناس المضطهدين من أنظمة سياسية فاسدة سلبتهم قوتهم وكرامتهم، فيما كان المنحى الثاني الغناء للحرية، فما من قصيدة من نصوص بغدادي إلى وفيها توق للحرية على نحو ظاهر أو مضمر».

رحل بغدادي رحل عاشق دمشق الذي كتبها في قصائده، بكنائسها وجوامعها وأناسها البسطاء وحواريها العتيقة، رحل آخر رواد الشعر في سوريا وخلفه يغلق الباب على مشهد ثقافي مختلف سيمضي وقت طويل لتتمكن الأجيال الشعريَّة اللاحقة من تشكيل مشهد مشابه.