آني إرنو الفائزة بجائزة نوبل وغضب إسرائيل

ثقافة 2023/02/04
...

  وداد سلوم

-اعرف عدوك. 

حرمنا الحرص على تكرار هذه المقولة من مقولة مهمة ايضاً ألا وهي تقدير الأصدقاء. الذين وقفوا معنا وتتملكنا الدهشة أحياناً أمام ما قدموه لقضيتنا بإمكاناتهم، ونذكر مثلا الكاتب السويدي هيننغ مانكل الذي كان في قافلة الحرية إلى غزة ومجرد إعلانه عن المشاركة بها زاد نسبة التبرعات 15 بالمئة، ما لم يفعله اثرياء العرب.


 واليوم وبعد فوز آني إرنو بجائزة نوبل تحضرنا مواقفها المؤيدة لقضايانا وللشعب الفلسطيني، وبينما نعود إلى رواياتها تقود إسرائيل حملة ضدها معترضة على منحها الجائزة، نتيجة مواقفها المتضامنة مع الشعب الفلسطيني في قضيته العادلة، المواقف التي ما زالت مصرة عليها، إذ تقول في تصريح لها بعد إعلان خبر فوزها بالجائزة: "إن ذلك مسؤولية كبيرة أعطيت لها من اجل مواصلة الشهادة على شكل من اشكال الانصاف والعدالة فيما يتعلق بالعالم".

كانت إرنو في مسيرتها الأدبية تهتم بالقضايا الإنسانية، منطلقة من أضيق الدوائر، إذ تنطلق من الذاتي والفردي إلى الحياة العامة  فرواياتها تأخذ طابع السيرة او اليوميات ما يسمى بالتخييل الذاتي، فالكتابة من وجهة نظرها: "التذكر عبر الخيال أو التذكر عبر الذاكرة هو قدر الكتابة" وهو ما منح رواياتها طابعاً مميزاً قريباً من القارئ، منطلقة من التجربة الحياتية  بكل ما يحتشد فيها من هواجس وانفعالات ومشاعر، مبتعدة عن نمط الرواية المتخيلة وملامسة العالم الداخلي للانسان ومعاناته المرتبطة، ولا شك بالمنظومة الاجتماعية خارقة العبارات العريضة المستخدمة في التعبير عن القضايا المجتمعية . تقول: "ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنىً وقيمةً وجعله في النهاية لا ينسى،  وإذا كان ثمة تحرر عبر الكتابة فهو ليس في الكتابة ذاتها، بل في المشاركة مع اناس مجهولين في تجربة مشتركة".


الاحتلال 

في روايتها الاحتلال  تتطرق إلى الغيرة، الشعور الذي يمتلك الشخص حد استلابه عقله وإخراجه عن محاكماته الاجتماعية، فتشبهها بالاحتلال الذي يكبل الانسان من كل الجهات، تاركة إياه في معترك صراع ذاتي غير مأمون النتائج ويغدو الشخص مثل "صندوق يختزن كل أنواع الألم"، فالغيرة تسمم الحياة وتجعل الشخص ممتلئاً بأحاسيس فوارة ومشتعلة تشبهها بانهيار الجرف او تدفق الأمواج، ليصبح تخيل التفاصيل الصغيرة في حياة الآخر محرضاً للألم، رغم كل محاولات استيعاب الانفصال عن الآخر. وفي محاولة التوازن والعودة للحياة الطبيعية تقوم بكتابة اليوميات لتفريغ الانفعال بالألم نفسه والقسوة والتآكل، الذي ينخر الذات والجسد، وصولاً إلى مرحلة امتلاك القرار بالخروج من الحالة عبر قطع حاد للمرحلة  بقطع صلاتها مع الحبيب.

تكشف لنا إرنو أن المرأة تقع تحت وطأة الحالة بسبب إحساسها بانها لم تعد مرغوبة او معشوقة، وهو ما يرافق مرحلة عمرية ذات شجون في حياتها، فليس الجنس ما يشعل هذه النار، وإنما الاحساس بالنقصان الذي يخلفه الترك، ويجعل المكان شاغراً للاحتياج العاطفي والروحي.


تجربة الإجهاض

أما رواية الحدث فتتناول فيها قضية الإجهاض عبر تجربتها الشخصية في بداية حياتها، حيث كان ذلك فعلاً معاقبا عليه قانونياً في ذروة تناقض اجتماعي، فالمجتمع الذي يمنح الحرية للشباب يحارب حالات الإجهاض إن وقع الحمل، وهو بذلك يقوم بإجهاض حياة النساء على حد تعبيرها، وخاصة الفتيات المقبلات على الحياة، ليدفعن وحدهن ثمن تجربة تنتهي بسهولة تقارب السهولة، التي يتم فيها تجاهل حياة الفتاة وطموحها، وهي التي ما زالت أبسط من أن تتخيل مسؤولية نمو طفل في أحشائها، تكتب إرنو لتوثق ذلك الألم الذي عاشته على مدار أشهر و مخاطرتها بحياتها، مقابل الخلاص متلمسة التشابك الاجتماعي للتجربة الفردية، فالمثقف المدافع عن حقوق المرأة  ينظر إليها كعاهرة، وخوف الأطباء من الملاحقة القانونية يجعل الفتيات الصغيرات يجربن أساليبَ بدائية تشكل خطراً على حياتهن، ثم تربية الأهل القاصرة  حتى أنها تشعر أن القابلة التي تقوم بإجهاضها تقوم بولادتها شخصياً، مقصية انتماءها الأمومي للوالدة،  فالتجربة الخطيرة والمؤلمة تعيد ولادتها من جديد بعقلية جديدة وتركيبة نفسية جديدة.

تقودنا الكاتبة من خلال يومياتها للإحساس بالنساء اللواتي يعشن التجربة سراً، واللواتي يتلقين صفعة المجتمع القوية، مؤكدةً انتماءها لهن وتشعر بالرابطة اللامرئية بينها وبينهن، ولهذا تقول كان لزاماً عليها ان تكتب عن تجربتها في الإجهاض، لأنها تريد ان تروي تفاصيل ذلك الألم الجسدي والنفسي، فإن لم تفعل ستكون شريكة في التعتيم الذي يمارسه المجتمع الذكوري على واقع النساء ومشكلاته، كما لو كانت شريكته في الهيمنة على العالم. كان ذلك في فترة الستينات في فرنسا حيث تتذكر ألوان الجدران المعتم والصادم والذي يشبه القوانين السائدة آنذاك، القوانين الصارمة نفسها التي تمارس حالياً تجاه قضايا مستجدة بنفس القسوة والقوة كقضايا اللاجئين والتعامل معهم، بارعة في الخروج من الفردي إلى العام ومن الاجتماعي إلى السياسي،  فمن خلال تجربة شخصية تجعلنا نعيش معاناة النساء، وكأنها نموذج تمر عبره سلسلة النساء في اجيالها محولة العنف، الذي عاشته إلى انتصار فردي، فالإنجاب خيار ورغبة ضروريان من وجهة نظرها لتكون المرأة  معبراً حقيقياً للأجيال.


المجد للأب

نالت عن رواية المكان جوائز أدبية في حينها وهي تتحدث عن صراع الأجيال، عبر علاقة الابنة بالأب، الذي غادر أصوله الريفية، حيث قضى طفولته تحت سيطرة الإقطاع  ليلتحق بالطبقة العاملة في المدينة ما يشابه سلوك الكاتبة، إذ تلتحق بعد تخرجها بالطبقة البرجوازية باختيارها العمل الذهني (مدرسة) كحال طبقة المثقفين المتأرجحة تاريخياً في انتمائها الطبقي.  وتنسلخ عن طبقتها الأم ليرافقها ذلك الاحساس بالخيانة، إذ قامت بعد ذلك بتغيير نمط حياتها أيضاً. بينما والدها حافظ طوال حياته على الكثير من عاداته الريفية ولهجته الاقليمية وحبه للأرض، وتلك الفطرة التي تتناغم مع الطبيعة كأن ينظر للسماء لمعرفة الطقس والتنبؤ به.

 كما كان لا يستغني عن زراعة بعض النباتات وتربية بعض الحيوانات في الحي العمالي الذي يسكنه. واستمرار ذلك في السلوكيات كالإحساس بالنقص والخجل من اظهار الأصول الريفية، إذ رافقه الإحساس بالنكران من العالم، الذي لم يكن واثقاً من الانتماء إليه. إضافة لما حملته حياة الطبقة العاملة من القسوة والمعاناة، بحيث طبعت نمط حياتهم وجعلته يبتعد مثلاً عن العناية بالجماليات والحرص على الكثير من القيود، كالأدب المبالغ به للحصول على الاحترام، وذلك بالتحايل على نظرة الآخرين النقدية وعدم التصريح بالآراء وعدم طرح الأسئلة، مخافة الفهم الخاطئ وإلحاق الصفات الذميمة بهم كالحسد أو الفضول غير المبرر، إذ كان هناك دوماً الاحساس بالعوز والنقص ومحاولة اخفائه، ادعاءً للكبرياء والكرامة واستخدام اللهجة القديمة، ما أورث الابنة متاعب في التعلم لغوياً، فهناك ما يقال في المنزل ولا يستخدم خارجاً.

وخلال ذلك كله تعيش تأنيب الضمير، لأنها خرقت هذا الانتماء الطبقي ففي جوهره تشعر بالتخلي عن والدها وتكتب لرد الاعتبار له، وقد امتلكها الاحساس بالتقصير تجاهه كأب سواء بالتقدير أو رد الجميل وكما دائماً يأتي ذلك متأخراً بعد وفاة الأب.

لم أخرج من ليلي 

آخر عبارة دونتها والدتها قبل أن تسوء حالتها فقد كانت مصابة بالزهايمر وهي إذ تبدأ بالكتابة  في هذه الرواية عن أمها  منذ مرحلة الشباب، بما فيها من حيوية وإقبال على الحياة،  تعيش الغبن وألم المقارنة بين التذكر والحاضر بما فيه من معاناة جسدية ونفسية، إذ تختلط الأشياء في رأس الأم  بشكل متواتر ويلتهم النسيان عقلها.

يوميات المصحة ومع المصابين بالزهايمر تعيدنا إلى الألم الأزلي للمصير الانساني، فترى نفسها في جسد الأم وتتحسس معاناة الانسان في نهاية عمره والخوف الذي يستيقظ فينا مع معايشة ذاك الانحدار، إذ تنقلب الصلات لتغدو الأم ابنة ابنتها، تحتاج منها الرعاية والعناية، بينما الابنة لن تستطيع أن تكون أمها أبداً بالمعنى النفسي والروحي. وتتحدث عنها بصيغة الماضي، رغم أنها ما زالت على قيد الحاضر وهذا هو المخيف. تصف تفاصيل الحياة البشرية في تلك المصحة وتلك  التصرفات الغريبة، المضحك المبكي، حيث الكائنات البشرية تعيش ضياعها وفق قدراتها المتناقصة، فقوة الحياة لا تستسلم بسهولة رغم أنَّ كل شيء يمنح الشعور بالسير نحو الموت.  تجربة تجعل الكاتبة تعيش تحت وطأة الإحساس باللاجدوى، وعقم الحياة السخيف، إنه العذاب الوجودي الحاضر رغماً عنا.

 تقول: هذا ليس أدباً ما أكتبه عن أمي إنه رغبة في الانقاذ، في الفهم.. إن ما يكتب عما نعيشه هو الحقيقي، حتى لو لم نتحمله اما الكتب الأخرى فلا فائدة، مجرد تلفيق"، الكتابة عن أمها أثناء الزيارات كانت تمسكاً بالحياة.

لا تخرج آني إرنو في كل رواياتها عن طبيعة افكارها اليسارية ورؤيتها للتركيبة الاجتماعية  للمجتمع الفرنسي، وإذ تنطلق من حالة الفرد في كل رواية مما ذكرنا لا تنسى أن تعيدنا إلى البيئة المجتمعية ضمن تركيبة عامة تفرض شروطها، معرجة على القوانين السائدة وكيف تحكم حياة الفرد وعلى احساس المرء بالخواء الذي يجعله فريسة الغيرة وغيرها من العلاقات، التي لا ترضي إنسانيته إلى معاناة الطبقة العاملة واغتراب ابنائها في محاولة بناء الذات، بما يتلاءم مع الطموح وحتى العذاب الوجودي، الذي يتسلط علينا دائماً، وسنرى في روايتها "انظر إلى الأضواء يا حبيبي". كيف ترصد تطور السوق في المجتمع الرأسمالي إلى مخازن كبرى، لتلبي حاجة الاستهلاك المتزايد عبر التطور الحضاري، وبعيداً عن الاقتصاد باتت هذه المخازن تجمعات بشرية كبيرة يختلط فيها مختلف الجنسيات والأعراق والمظهر والميول، أنها تراها نموذجا للمجتمع الكبير، وارتيادها لا يقتصر على التدبير المنزلي ومشقة التبضع، بل إنها تحفز الأفكار وتمنح الذكريات والمشاعر، إنها مكان أليف يتداخل استخدامه مع الحياة، وفيه تصادف حيوات كثيرة وقصصا، تصلح لأن تسرد في روايات رغم أن الأدب العالمي لم يتطرق لها مبررة ذلك بأن التسوق لطالما ارتبط بمفهوم المعيشة والعمل المنزلي وهو نشاط لا قيمة له.

 قامت إرنو بزيارة أحد هذه المخازن عبر ايام متوالية، في النهار تكون في أوج الازدحام وفي الليل صامتة مثل مقبرة وتقول إن "ذلك ليس بحثاً استطلاعيا ولا تحرياً منهجياً، إنما يوميات ما ينسجم مع مزاجي  الذي يميل إلى الالتقاط الانطباعي للأشياء والناس والأجواء، كتابة حرة في إبداء الملاحظات والمشاعر محاولة مني للإمساك بشيء ما من الحياة الدائرة هناك". وها هي ترصد عبر هذا المتجر- النموذج حياة ويوميات مجتمع كامل تاركة بصمتها على هذه المشاهدات بإبداء الرأي والتحليل عبر موقفها الفكري مما تراه فيها. فتنفعل غاضبة من فصل الألعاب، إذ  يخصص قسم للبنات وآخر للصبيان، وتتنبه إلى أن ألعاب البنات من النمط الذي يكرس ويؤطر الفتاة بأعمال المنزل والتفاهة والطبخ تقول: "أنفعل غاضبة من الشعور بالعجز وافكر بحركة النسوية يجدر بهن  المجيء إلى هنا إلى المنبع الذي يشكل لا وعينا".

ويستمر ذلك في الواقع باستخدام المرأة في الدعاية، إذ تلتصق صورة الاعلان بالنساء وما أكثر الصور، التي تعزز مفهوم المرأة كرفيقة للطناجر والأعمال المنزلية.

تخبرنا إرنو كيف تتعامل هذه المتاجر مع الكتب أيضاً، إذ تعرضها حسب الأكثر مبيعاً كخيول في السباق مرقمةً حسب عداد المبيعات، هناك يتم تسويق الثقافة كسلعة تدر الربح. بينما نجد أن أكثر الكتب تواجداً هو كتب المطبخ.

تستخدم هذه المتاجر كلمة زبائننا وهذا يغضب الكاتبة، إذ يقومون باعتبار الزبائن ملكية لهم، إنه جزء من ستراتيجية الإغراء الاستهلاكية، التي تمارسها على الزبائن، لجعلهم معلقين بعلامتها التجارية، الزبائن  الذين يقعون تحت سلطة العروض التي تقدمها وكثيراً ما تكون وهمية. 

 لكن الذهاب لهذه المتاجر لا يخلو من الأهمية، إذ تمنح فرصة التشارك بالأذواق للشباب الذين يبدؤون حياة مشتركة.

كما هناك فرصة الالتقاء بالأعراق المختلفة. ما حدث مع الكاتبة، حين التقت امرأة ذات أصل إفريقي، ولأنها أرادت الحفاظ على أمانتها في النقل وقعت في تناقض حقيقي، فإن كتبت امرأة سوداء ستكون عنصرية، وإن أغفلت لونها ستقوم بسلب المرأة صفة حقيقية تعبر عنها، لأن القارئ سيفهم ضمنياً أنها بيضاء، هكذا نقع  تحت سلطة التصنيف المجتمعي بشكل لا إرادي، حتى لو كنتَ مناهضاً لهذا الفعل، كما تلتقي شخصاً آسيوياً يتحدث مع طفله مطلقاً على الأم اسم مومو، فتتذكر أنه الاسم الذي كانت تطلقه على أمها في الطفولة، لقد استخدما نفس التعبير رغم اختلاف العرق بينهما. ثم ترى الشبه بين الأشكال الجديدة للحجاب مع أغطية الرأس القديمة، التي كانت سائدة في بعض المناطق في فرنسا منذ 

عصور.

تتابع المخازن الكبرى أعياد ومناسبات الأجانب ليس اهتماماً يدخل في باب التنوع الثقافي، وانما هو عرف التسويق فحسب.

وتعرج على موقف سكان البلدان الغنية (الرأسمالية) من البلدان النامية الفقيرة، حيث احترق مصنع نسيج في بنغلادش مات فيه العمال، كما مات آخرون في  تهدم بناء أيضاً في بنغلادش، ولكن سيمر الخبر ببساطة ولن يحصد سوى بعض التعاطف (دموع التماسيح) كما تسميه. 

حتى العاطلين عن العمل في فرنسا لن يفعلوا أكثر من ذلك مبتهجين بقمصان بولو التي يشترونها بسعر رخيص وعليها علامة الماركة العالمية التي ينتجها المعمل في بنغلادش، 

تقول إن التغيير لا يكون إلا عبر المظلومين انفسهم.

بينما نلحظ الفارق بالمستوى المعيشي في المجتمع نفسه عبر التمييز بين الرواد الذين ينساقون وراء رغبة التبذير وبهجة التسوق، وبين الفقراء الذين يتسوقون من تبرعات اولئك إنه النظام الرأسمالي العالمي نفسه، الذي لا يهمه الإنسان بقدر مراكمة الربح والسيطرة.

 إذ تمثل هذه المخازن، قوة المجتمع الاستهلاكي الرهيبة، والتي تسيطر على الزبون وتجعله فريستها بإدهاشه عبر عروضها، التي تمنح الفقراء وذوي الدخل القليل فرصة التكيف والتدبير عبر خياراتها محافظة على الخنوع الاجتماعي.

 ومع نشوء علاقات تواصل بين الزبائن نلاحظ أن الانسان يعّرى في هذه المخازن، إذ ينكشف المرء على الآخرين كما ينكشفون عليه، فحين يفرد بضائعه تستطيع الاطلاع على نمط حياته من خلالها وطريقه عيشه، وصفاته النفسية التي تظهر في  انتظار الدور من  رعونة أو عصبية او حرص.

ومع السعي لتخفيض النفقات، يتم استبدال الموظفين بآلات فتتسلل اللامبالاة الأخلاقية إذ لن "يتحرج احد من السرقة امام آلة". هذا التطور نفسه يقود الكاتبة للتكهن بتلاشي الحاجة إلى  المتاجر مقابل انتشار انظمة الشراء الجديدة عبر النت وخدمة التوصيل حاشرة الإنسان في عزلته أكثر.

هذه الرواية التي لا تتعدى المئة صفحة، لا تستطيع الحديث عنها باختصار ابداً لغنى ما تورده من أفكار وحيثيات إنها سيرة ذاتية لمجتمع كامل.

"روايات إرنو لعبة بازل تشكل كل واحدة قطعة منفردة وإن جمعناها جميعاً بدت أمامنا اللوحة كاملة".

تدون آني إرنو الحاضر لأنها تود الحديث عن حركة العالم فإن توقفت عن ذلك ستشعر أنها تنسحب من الحياة، فالحديث رؤية ايضاً  كما تقول، إنها تكتب فتتحدث إلى القارئ كصديق تود مشاركته الحديث والرأي ببساطة وتحدثه ليس فقط عن قضاياها، بل ايضاً عن أسلوبها في الكتابة، وهذا ما يجعلها قريبة ويجعل القارئ منسجماً، فتحصد ليس التعاطف فقط، بل الانجذاب والشعور بالندية والمشاركة، إنها تجعل القارئ يعيش معها مشاعرها الجوانية والحالات الحميمة تجاه ما هو مكون اساسي في حياة الإنسان، كالأب والأم كما تشاركه تجاربها الشخصية وما أحدثته من هزات في حياتها مختارة مواضيعها من قلب الحياة الحقيقية المعاشة.

لم تكن  رواياتها الكثيرة مسهبة ما يلائم عصرنا  السريع في كل شيء ، كما نحت في أسلوبها الاختزال في السرد وهو الأسلوب المتبع في الشعر أكثر من الرواية، وهذا يناسب  النوع الأدبي الذي اختارته، فالعبارات القصيرة والابتعاد عن الزخرفة الأدبية هو ما نفعله حين نكتب مذكراتنا للتعبير عن مشاعرنا وأحاسيسنا، إذ نكتفي أحياناً بكلمة او سطر، لأننا نكتب لنفسنا اولاً وهذا وإن كان مستغرباً إنما يمنح القارئ الاحساس بالصدق وجره إلى التجربة ذاتها، بما تحمله من انفعالات ومشاعر حتى ما نواريه في الأعماق كالندم والخوف والغيرة.

إنها مهارة إيهام القارئ بالشراكة وبأن ذلك واقع معاش فاتحة الأبواب أمامه، ليكتشف ما يلامس داخله بالذات وعلاقته بالعالم.