المُتيَّم: السيرة التي كُتبت باتفاقٍ خاصٍ بين الكاتبة وقرائها

ثقافة 2023/02/04
...

 حمزة عليوي 


هل يغير الفقدان طرائق التسمية والوصف والتفكير بحالة المفقود، بل هل يغير الغياب الأبدي حالة المفقود في عين وعقل ولغة من "يستعيدـ"ـه، فيتحول من واقعه اليومي المعاش إلى جملة ذكريات وخطابات ونصوص تحيل، دائما، إلى زمن صار أشبه بالمرض الذي لا شفاء منه؟ أفكر بحالة الكاتبة "مسلون هادي" في سياق تذكرها لزوجها ورفيق عمرها الناقد الراحل الدكتور نجم عبد الله كاظم. لكن، مهلا، هل كانت الكاتبة في سياق "التذكر" حقا؛ وهل وصلت إلى الاعتراف اليقيني فيما يخص "الفقدان" الأبدي للزوج والحبيب؟ لا أظن؛ فالمتيم، نجم عبد الله كاظم، باق في مكانه وزمانه. في هذا السياق أتذكر أن الكاتبة ميسلون هادي قد اعترضت بشدة على عنوان كتاب أشرفت على تحريره يحتفي بالناقد الدكتور نجم عبد الله كاظم، وكنا قد اخترنا عنوانا أوليا ينص على كلمة الوداع في العنوان. جوهر الاعتراض تمثَّل بالرفض الكلي لموضوعة الوداع. 


المتيم ومعنى السيرة "المختلفة" 

يمكن فهم المُتيَّم، ابتداءً، أنه العاشق الولهان، الذي قد يوصله الحب لفقدان العقل. وهذا بعض مقاصد الكاتبة من توصيف "المُتيم"، أقصد أن الناقد الراحل هو المُتيَّم بعمله وعائلته "زوجته وأولاده الثلاثة" وبلده ومنجزه النقدي المختلف. فهل يكفي الحب، وحده، أو السعادة المتحققة مع المُتيَّم في الأزمنة كلها، في الغد قبل الأمس، ليكون دافعا لكتابة سيرة المُتيم؟ في عنوان السيرة الفرعي، ثمة تدقيق أخير لمعنى المتيم؛ فهو، كذلك، "سيرة" البحث عن لـ "السعادة"، فليس "المُتيَّم" هو المحب الولهان، إنما هو، أيضا، الباحث عن السعادة لمن يحب. والمفارقة أن السيرة تكشف أن "السعادة" ليست فقط التي يمنحها المُتيَّم لمن يحب، إنما هي حصة "مضافة" لمن يكتب سيرة الباحث عن السعادة أيضا. 

تبدأ الكاتبة بتدوين سيرة "المُتيَّم" بعيد رحيل الزوج وفقدان الحبيب والأب، كما لو أنها بفعل الكتابة تقاوم غيابه عن حياتها/ حياتهم. لكنها تكتب، في التقديم المفترض للكتاب، أن بعض قرائها قد طالبوها بالكتابة عن "نجم" وسنوات الكاتبة معه. وهذا الطلب ليس بالجديد على عمل كاتبة، مثل ميسلون هادي، أمضت شطرا مهما من حياتها المهنية في العمل الصحفي، وفي الصحافة يحضر القارئ دائما؛ بل هو المستهدف من أي كتابة صحفية. الجديد، هنا، أن الكاتبة تنجز نصها عبر وسيط آخر، مختلف جذريا، هو الفيسبوك، حيث القارئ هو عماد أية كتابة؛ في الأقل، إن القارئ يشكِّل ضغطا كبيرا على "الكاتبـ"ـة المعروف. فهل كان تصدير الكاتبة سيرتها المقترحة اعترافا بدور القارئ الضاغط والمختلف عما سبق؟ نعتقد أن ذكر القارئ هو مجرد تسويغ، ربما، لا قيمة له في إنجاز السيرة؛ لنقل إنه مجرد إيهام بقيمة عنصر خارجي تطلَّبه منطق الكتابة في الفيسبوك، وهذا ذاته هو منطق الكتابة الصحفية، لاسيّما في الصفحات المتصلة بشؤون القراء. والمفارقة أن القارئ، أصدقاء صفحة الكاتبة على الفيس كما كتبت بنفسها، يملكون، في الفيس، التأثير المباشر بتعليقاتهم الفورية، بينما لا يملك قراء الصحافة "الورقية" هذا الترف. نحن هنا إزاء منطق أو أمر جديد، كليا، في الكتابة؛ فالكاتبة لا تجلس في بيتها وتنصرف، فقط، لكتابة السيرة، إنما عليها أن تواجه ضغط الكتابة على الفيس، وربما عليها أن تتحمل، أيضا، مشقة ضغط القارئ، وهي تنجز فقرات السيرة. نتحدث، هنا، عن أثر القارئ المختلف عبر وسيط جديد على النص السيري العربي، وهو الفيسبوك. وهذا الأثر يتحقق أمامنا، ونشعر بثقله وخفته معا، حتى أننا نكاد نصدق أن المُتيَّم هو السيرة الأدبية الأولى التي تُكتب "تنجز" أمامنا نحن قراء الفيس. 

لكن السيرة، وكاتبتها حتما، لا تبالغ كثيرا بقيمة القارئ وحضوره في أثناء كتابة السيرة؛ إذ يظل تأثيره مقتصرا على "تعليقات" اختفت، بأسف بالغ، من السيرة بصيغتها الأخيرة المنشورة بالكتاب، مثلما اختفت الصور "الأحرى أن نقول رُفعت" الدالة والموجهة للسرد، بل المشكِّلة للفقرات الأهم في السيرة. يظل القارئ، إذاً، جزءا من الوسيط الكتابي "الفيس"، وله وظيفة أخرى ضمنية لا يعمد السرد لتبريزها، نجدها في رغبة النص "ومن ثمّ كاتبة السيرة نفسها" بإعادة توجيه الاهتمام صوب هوامش غير فاعلة في السيرة، ومن ثمّ اخفاء الإشكالية الأبرز في السيرة، وهي الجدل الخفي بين ضغط الفقدان على الكاتبة ورغبة السيرة ذاتها بمقاومة فعل التذكر، في الأقل اخفاؤه. فكانت الكتابة المباشرة على صفحة الكاتبة على الفيس سبيلا أوليا لكتابة "سيرة" لا ينتجها أسى الفقدان، ولا يكون النسيان أحد مسوغاتها. 


سيرة روائية: لا ناظم زمنياً للأحداث سوى إيقاع الكاتبة المختلف

لست متأكدا، تماما، إن كانت الكاتبة قد التزمت بالترتيب الزمني لفقرات السيرة كما كتبتها ونشرتها على صفحتها، أولا، ثم في الكتاب المنشور ثانيا. والظاهر أنها التزمت بالتسلسل الزمني لنشر فقرات السيرة كما ظهرت، أولا، على صفحتها. وعندي أن هذه القضية ذات أهمية بالغة، فهي تفسر لنا، مثلا، لماذا غاب الانتظام الزمني في فقرات السيرة. نقصد، هنا، بالانتظام الزمني أن تتخذ السيرة مسارا تصاعديا/ متتاليا، يجري عبره تقصي حياة المُتيَّم، ابتداء من نقطة ما ثم منتصف الحكاية ثم الخاتمة، مثل هذا الانتظام غير موجود، ثمة انتظام آخر، زمني أيضا، يتعلق بزمن نشر مواد السيرة على الصفحة الشخصية للكاتبة. فإذا استثنينا التقديم غير المؤرخ، والخاص بالكتاب المنشور، فإن وقائع السيرة تبدأ بتاريخ السادس من آب عام 2020، وتتخذ مسارا تصاعديا حسب توالي النشر في الفيس، لتكون الواقعة الأخيرة بتاريخ الثاني من آب عام 2021، وتشغلها قصيدة شعرية عمودية كتبها أحد أصدقاء الناقد الراحل، وقد ارتأت الكاتبة أن تجعلها خاتمة السيرة. 

حسب التواريخ المثبتة في الكتاب فإن كتابة السيرة قد استغرقت سنة كاملة. وهي فترة ليست طويلة، وربما هي غير كافية لإنجاز السيرة، لكن إغراءات الفيس بوصفه المجال الكتابي المعتمد هنا، قد وفَّر للكاتبة المساحة الكافية للكتابة وإنجاز السيرة. 

وهو ذاته الذي أتاح لها فرصة التلاعب بمفاصل السيرة الزمنية، بل واختيار ما تراه مناسبا من حياة المُتيَّم وحياتهم عامة، فصرنا نقرأ سيرة عن الحياة المشتركة التي أنتجت المُتيَّم، أو التي أوجدها المُتيَّم. وبتصوري أن مساحة السرد المشتركة بين الكاتبة والمُتيَّم، كانت المغذي والرافد الأهم للكتابة. 

هكذا سنجد السيرة تترك مساحة جيدة لحكاية الكاتبة نفسها، صلتها بالمُتيَّم، كيف تزوجته، بل كيف دافعت عن حياتهما المشتركة. لا تبخل علينا الكاتبة وسيرتها بالتفاصيل المعززة لمعنى "المُتيَّم"، وبحثه عن السعادة، منها ما يتصل بالأسرار الشخصية، مثلا كيف اقتنعت بالمُتيَّم، زوجا لها، أو ما يتصل بالمصائب الشخصية نظير فقدان الأخ في الحرب وعودتها، وحيدة من بريطانيا، لبلدها. وقد يشمل الأمر حتى القناعات الشخصية الخاصة بالشكل أو الوجه أو حتى طريقة المشي. هل أريد القول إن المُتيَّم هي سيرة أخرى للكاتبة نفسها؟ لا أظن أن الأمر بهذا البساطة، لكنني أجزم، في الوقت ذاته، أن الكتابة "متورطة" حد النخاع بالسيرة وصاحبها؛ أليست هي كاتبة السيرة وراويتها، وهي ذاتها من سيتكفل بتحويل السيرة من محض كتابات شخصية منشورة على الصفحة الشخصية للكاتبة على موقع الفيسبوك إلى "سيرة" مكتوبة ومنشورة بكتاب، كأنها بهذا العمل تحفظ السيرة، والمُتيَّم من ثمَّ، من الزوال والنسيان، ومن الفيس وقرائه بتعليقاتهم الآنية المنسية ولا شك. 

ألم أقل، ابتداءً، إن "المُتيم" نص يقاوم "التذكر" و"الفقدان"، فهو الباقي بيننا، وهو المستقبل، مثلما هو الحاضر بيننا.