السياسة أولاً وأخيراً

آراء 2023/02/04
...

 رعد أطياف

 

لا يأتي التغيير طبقاً للتفكير الرغبوي، ما لم يكن مصحوباً ببرنامج سياسي طموح تترجمه على أرض الواقع نخبة سياسية محترفة. من الصعب للغاية أن يخضع الواقع لأفكارنا المحضة طالما تبقى هذه الأخيرة مجرّد أمنيات في عقولنا. تغيير الأفكار يسهم بالتغيير بكل تأكيد لكنّه لا يتعدى الأفراد، أما التغيير الاجتماعي لا تسعفه الأفكار لوحدها. بتعبير أوضح، ينبغي أن تُتَرجَم هذه الأفكار بإطار سياسي. يمكننا أن ندّعي التميّز نظراً لما نتمتع به من أفكار تقدمية وسلوك حضاري ونحو ذلك، لكنها في معزل عن المجتمع الذي نتفاعل معه. حيث تبقى العلاقات الاجتماعية كما هي عليه: مجتمع تقليدي لا يذعن للمواهب الفردية ذات الفكر المميز. بل تنطمس هذه المواهب بمرور الزمن ويعمها النسيان. كل التغييرات التي حدثت كانت شرارتها الأولى سياسية محضة. أي أنها اندفعت بإطار سياسي. وإذا سألنا هذا السؤال: هل التغيير اجتماعي بطبعه أم سياسي قبل كل شيء؟ بالتأكيد سنميل إلى الشق الثاني نظراً للوقائع التاريخية التي تصادق على هذه الحقيقية. فمن السذاجة المطالبة بتغيير اجتماعي أو التعويل عليه، ذلك أن طريق التغيير الاجتماعي طريق طويل للغاية. إن التفكير في عبور أي حقبة تاريخية، أو منظومة ثقافية ما، يقتضي بالضرورة، إزالة الشروط الاجتماعية التي صاحبتها وساهمت في تكوينها. إن التفكير النقدي المجرد وحده لا يكفي، ويتحول بمرور الأيام إلى جزع شخصي ورثاء للذات. أي انقلابة في مجتمع ما تبدأ من التغيير السياسي، ذلك إن التحولات الاجتماعية ليست هيّنة لهذا الحد، وإنما تبقى الذاكرة والمخيال الثقافي يهيمنان على مجمل سلوكيات المجتمع، غير أن بناء المؤسسات وسن القوانين سيكونان عامل إكراه للحد من السلوكيات، التي لا تتماشى مع وجود الدولة الحديثة. يعلمنا ماركس حقيقة مفادها: بأن الوقائع أقوى من الأفكار، فالواقع لا يتغير لمجرد أن تريد له الأفكار ذلك!؛ فوجود المؤسسات الاجتماعية وحرسها القديم لا تبدلها الأفكار على الإطلاق، وإنما تبدلها مؤسسات حديثة موازية لها. إن كل الأفكار ما لم تصاحبها قوة سياسية تترجمها على أرض الواقع فهي محض كلام عجائز، تذمر صبياني، كتاب مرميَ في رف يتأمل نفسه! مالم يضع العراقيون هذه الأفكار- إن كانت صحيحة- نصب أعينهم فلا شيء يتغير على الإطلاق، بل سنغطس في دوامة أكثر تخلفًا من سابقتها. تحضرني هنا مقولة إنجلز البالغة الدلالة: إنه لمن السذاجة الصبيانية أن نجعل من جزعنا الشخصي برهاناً نظرياً.