الارتحال الذاكراتي

ثقافة 2023/02/05
...

 د. جاسم خلف الياس

يتكئ البناء السردي في رواية (الرقص على أعتاب العابرين) للروائيّة مريم ذياب على الارتحال الذاكراتي، في مقتضيات فنية متعددة، ومستويات لغوية مختلفة، جاءت في بعضها بلغة مباشرة وتقريرية، وبعضها بلغة تعبيرية عالية مشحونة بالانفعالات، ومكثفة في إظهار بواطن الذات، وكشف مكنوناتها النفسيّة. وقد تجلت فيها الذات الأنثوية المتحولة، ومكابداتها المتفاوتة من حيث القسوة والمعاناة، في ما يشبه السيرة الذاتية.لقد احتشدت الرواية بمكونات لغوية مترنحة بين التصريح والتلميح، لتقدم الذات الساردة وبضمير المتكلم الـ (أنا) حالتها الشعورية الحادة في الرواية التي هيأت مؤلفتها للساردة وصف تلك الحالة.

وجعلتها مسوّغا لتفعيل الذاكرة التي تتناغم مع الهواجس الليلة، وتتقيّأ تخمتها لترتاح من صورها المؤلمة وأحداثها التي عشّشت فيها، والنّدوب التي شوّهت روحها. 

إذ أسهم هذا الضمير في تهديم أسوار الخوف، والتعبير عما في داخل الساردة/ الشخصية (شفاء) بشكل مباشر، فهذا الضمير حسب عبد الملك مرتاض في كتابه (في نظرية الرواية) يقرّب القارئ من العمل السردي، ويجعله أكثر التصاقاً به، موهماً إياه أن الكاتب فعلاً هو إحدى الشخصيات التي ينهض عليها النص الحكائي، وإنّ هذا الضمير يحيل على الذات، في حين أنَّ ضمر الغائب يحيل على الموضوع،  بمعنى أنّ (الأنا) مرجعيته جوانية في حين أن (الهو) مرجعيته برانية... إنَّ ضمير المتكلم أكثر تحكماً من ضمير الغائب في مجاهل النفس وغايات الروح.

إذ إن ضمير السرد في المناجاة يستطيع التوغل إلى أعماق النفس البشريّة فيعريها بصدق ويكشف عن نواياها ويقدمها إلى القارئ كما هي لا كما يجب أن تكون. 

وعلى هذا الأساس اقترب السرد الذاكراتي في هذه الرواية من السيرة الذاتية كثيرا، وظلت الساردة/ الشخصية تستذكر التفاصيل الدقيقة في حياتها، وتتحفز وتتوثب للخلاص من المدنس الذي عاشته مرغمة، لتصل إلى المقدس الذي اختارته، أي انتشال ذاتها من فضاء الجسد إلى فضاء الروح، وعبر استرجاعات واستباقات منحتها حرية الانتقال بين الماضي والحاضر والتطلع إلى المستقبل، لفرض مركزيتها على مستوى الشواغل السرديّة البانية لفضاء السرد. 

وقبل أن تسترسل الساردة/ الشخصية (شفاء) في ذكرياتها، تدرك الروائية أن تداخل الضمائر السردية يمنح السرد فاعلية أكثر في القراءة، فضلا عن زيادة التشويق القرائي عبر طرد الاجترار الذي يملّ منه القارئ، فيتحول الضمير السردي من المتكلم الـ (أنا) إلى الغائب الـ (هي) وهي تقدم رؤيتها الأنثويّة في معاينة للذات والعالم، فضلا عن فضح الثقافة البطريركية العاجزة في واقعنا العربي المعيش عبر الاستخفاف بالعابرين على مختلف مشاربهم، بدءا بالعابر العادي وانتهاءً بعابر من رجال السياسة، مرورا بعابر من رجال الدين، ورجال الأمن.. 

وغيرهم. 

وكأنها تريد أن يكون التحول مكونا جوهريا في السرد، واستجابة ضرورية للوعي الأنثوي، ومقوّضا للنمطية الموروثة في علاقة التبع بالمتبوع، ومعززا الاستقرار على أسس متوازنة ومتفاعلة، تؤمن بالتشارك الاجتماعي المؤثث بالحب والحنان، بعيدا عن اندفاع التطرف، وفرط الانحياز لطرف دون آخر، فالعلاقة بينهما متكافئة في التبادل الشعوري بين (شفاء) والذي لم يتمظهر بعد في الرواية باسمه الصريح، والذاكرة نشطة وحيوية في مثل هذا الوقت: «كانت تسافر إليه كلّ أصيل، تتغنّج في غلالتها الحمراء، يحضنها.. يطفئ لهيبها فتنام بين أحضانه هادئة كطفلة تهدهدها همهمات العاشقين المتلحّفين بالسّواد» الرواية 7.  

ثم تعود ثانية إلى السرد بضمير المتكلم بعد أن ازدادت فاعلية التذكر وهي تمارس التلصص من النافذة، وتسعى إلى طرد الوحشة القاسية، فتمد رقبتها لتمعن في وجه رجل أربعيني، وجه ألفته، صار يزورها في أحلامها، وصارت تبحث عنه بين الوجوه التي اكتظّت بها ذاكرتها، ولكن هذا الأمر لم يدم سوى ربع ساعة، فتسدل السّتائر، وتحكم غلق المتاريس، وتطمر جسدها في الفراش متسائلة: «لا أعرف ما الذي اِعتراني كي يصيبني هذا الهلع والقلق وأنا ابنة اللّيل بامتياز، أعشق السّهر فيه وأحبّ مذارعة ساعاته الطّوال الملفوفة بأناقة السّواد وغموضه» الرواية 8. 

هذا التساؤل سيقودها إلى تذكر تكدّس السنوات في داخلها، سواء أكانت تلك السنوات متناسقة مسترسلة أو متقطّعة متعثرة.

وإلى تذكر جدتها (صلوحة) في ردائها الأبيض، ويوم وفاتها، من القبلة الأخيرة على جبينها، وحتى تفاصيل الغسل ونقل الجنازة بمساعدة العم (صالح) الجزار إلى العاصمة لتُوارى الثّرى في مقبرة (الزلّاج) حذو أمها، تلبية لرغبة يتيمة طالما عبّرت عنها كلّما انهمرت الذّكرى بينها والجدة التي نعتتها مغسلة الأموات بحسن الخاتمة. 

لكن الذات الساردة خنقت داخلها قهقهة عالية وهي تستمع إلى عفوية العجائز اللواتي لا أثر للشوائب في قلوبهن وأرواحهن، فهي وحدها (شفاء) تعلم ما سر هذه الرائحة التي وصفتها تلك العجوز بالربانيَّة. 

ولأنَّ الفقد يزلزل الكيان الانساني متزامنا مع الوجع والقهر، ويعمل على مراجعة النفس، فـ «كم هو عصيّ وصعب وجارح خروجنا النّهائي من الباب الأخير للحياة، الباب الذي يُوصد خلفنا من دون رجعة»

الرواية 10. 

لقد اعتمدت الرواية على تشكلات التحول من ذات خاضعة لمفاهيم مجتمع ذكوري بائس تعاملت معه بجسدها إلى ذات واعية ومتيقظة، وهذا ما جعل تمرّدها، مشوبا بممارسات تعمل على تحرر الجسد من التدنيس الذي تمثل في منطقة التمركز الذكوري، وصولا إلى انطلاق الروح في منطقة التقديس التي تعمل على انفصالها عن الآخر. 

إنَّ الساردة / الشخصية (شفاء) تعيش مخاض التحول؛ فثمة صوت في إحدى زوايا الذهن يخدش شغاف روحها، ويحرّضها على تلبية النداء، ولكنها غير متيقنة من أن هذا صوت حقيقي أم مجرد أحلام يقظة، فيتأجج هذا الشّعور بداخلها، وتفيض بسرد تعبيريّ يشرح دواخلها، ويعري توجسها وخوفها. 

مكبوتات الذّات، تعرّي الرّغبات الكامنة في

لا وعيها. 

وعلى الرغم من أن الوعي في هذه الرواية قد جاء فرديا، إلا أنه لا يشكل قطيعة مع الوعي الجمعي من جهة، وارغاماته القسرية من جهة أخرى، في تعالق مع المرجعيات الثقافية والاجتماعية.

وهذا ما ساعد على تفعيل الذاكرة في منطقة المرئي أو المسموع أو المتصور حسب ريكور، والمراهنة على إزاحة الحضور وتعاليه عبر تخريجات الذات بمحمولات دلالية تهدد الداخل، وتعمل على اختراقه. 

وقد جاء السرد الذاكراتي في مجمل الرواية مسبوقا - في الأغلب- بمسوغات التذكر، والأفعال والأسماء التي تبنت هذا الفعل الإنساني.

ونختتم المقاربة بقولنا: إنّ بنية الذاكرة التي نهضت عليها الرواية وفعّلتها مريم ذياب بكثافة، منحت القارئ مساحة واسعة في فضاء التأويل، لا سيما التحوّل الذي طرأ على حياة الشخصية.

فسعة خيال الروائية وتصويرها للأشكال المختلفة عبر توظيفها للذاكرة عملا على تقوية عملية السرد وجذب القارئ إليه، وهنا تحررت من التقنيات التقليدية، وسعت إلى انوجاد عالم متخيل بأسلوب يتوافق مع الأحداث الواقعية وفوق الواقعية، التي تداخلت فيما بينها من أجل خلق الحيرة والتردد والدهشة وتغيير مسار السرد؛ لإمتاع القارئ ونقله من عالم مألوف وواضح وبسيط إلى عالم غامض ومعقد ويتجاوز حدود الألفة.