الثنائيَّة الفنيَّة في تراكم الجمر والندى

ثقافة 2023/02/05
...

 ستار زكم 

 

عندما نقرأ للشاعر ريسان الخزعلي نجده يزيح التراكمات المعرفية من مخياله جانباً أثناء كتاباته الشعرية كي لايقع في الفخ النقدي الذي يستدعي طروحات عقلية منتظمة قد تبعده عن الصورة الشعرية التي يستدعيها في المخيلة. 

وقد يأتي هذا الرأي مطابقا من خلال تشكّل طوباوي يتملك الشاعر وهو يغوص في لجة الصور والتمثلات الشعرية، أي أنه يفصل بين ما هو حلمي وواقعي والتجرّد التام عن العقلية المنضبطة التي يجيدها بطبيعة الحال أثناء كتاباته النقديّة وآرائه المعرفيَّة. 

إنَّ هذا الفصل التام بين ما هو شعري ونقدي اثناء الكتابة يعد من أصعب الحالات التي يمر بها الشاعر الناقد بطبيعة الحال وتعطي للآخر انطباعا عن تلك الإمكانية التي يتحلى بها ريسان الخزعلي، ولا غرابة في ذلك عندما نقرأ للشاعر العديد من كتاباته المائزة في كلا الجنسين من الكتابة. 

يأتي هذا الاستدلال بمناسبة ما قدمه الشاعر ريسان الخزعلي في أعماله الشعرية غير الكاملة التي صدرت من دار العرّاب في دمشق عام 2021 حيث نجد حالات عديدة في المزج بين حياتين أو حالتين، الأولى حياة مليئة بسخام الحروب وسوادات الظلال القاتمة التي عاشها ويعيشها الشاعر بأستمرار، والثانية حالة يتجلى فيها العشق الشفيف الذي لم ينقطع عنه في حياته عبر استرجاع مخيلة خصبة يتمتع بها دائما. 

فعندما تقرأ هذه الأعمال الشعرية تجد نفسك أمام سيرة حياتية يقلبها الشاعر أمام مرآة الحياة متنقلا بين مرحلة الطفولة والصبا ووصولاً إلى مرحلته الآنية وهي مرحلة النضج التام. 

وابدأ في تناول هذا المنجز الإبداعي من خلال لوحة الغلاف التي تعني ما انطلقنا اليه حول العنونة التي تحيلك الى صورتين متقابلتين أو مدمجتين في مربع جعله مصمم اللوحة باللون الأحمر، وهذا اللون يعبر بطبيعة الحال الى الجمر والندى في آن واحد، فالجمر تعني اللوعة والحرب والقتل وجميع هذه المسميات بالضرورة تخضع إلى هذا اللون، وكذلك الندى الذي يحيلنا ضمنا إلى الجمال والغنج والعشق حيث يرمز الى هذه الثنائيات باللون الأحمر الذي يشير بطبيعة الحال إلى مزج جانبين متقابلين، صورة الجمر الذي يأخذ انطباعا يمتدُّ من سعير الحياة وقساوة العيش ومرارة اللوعة التي تكتنز روح الشاعر التواقة الى الفرح والسعادة، فيأخنا الشاعر في لجة هذا الاستذكار إلى لوعة القصب وصوت الغربة التي يعيشها الشاعر بعد أن قطع مشواراً طويلا يمتد من مقتربات (نهر الهدام) الذي بقيّ عالقا في ذهن الشاعر وهو المكان الأليف الذي لم ينفك من مخيلة الشاعر في العديد من كتاباته الشعريّة ووصولا الى مراحل متقدمة من العشق النبيل وتلك اللوعة الصارخة في حياة لم تمهل الشاعر أن يقترب أكثر من تلك الروح الشفيفة التي كانت وما زالت تشغله دائما، فالجمر هنا ماعلق بالذاكرة والندى ماعلق في القلب.

من الشواخص الواضحة في كتابات الخزعلي انبعاث الغربة التي يعيشها الكاتب في مقترباته الحياتية، لذلك نجد التأثيرات البيئية والمكانية حاضرة ومتجذرة بقوة في المخيال الشعري لدى الكاتب وانعكاسا واضحا نحو ذلك الالتصاق بالمكان الأول في صور متقابلة يهمس اليها في كتاباته الشعرية عبر ثنائية تمتزج فيها الصورة الشعريّة عبر مخيال خصب. 

إنَّ عصارة هذا الجهد الفني الذي يقدمه الشاعر يضعنا أمام صورة ماثلة ومعبرة عن إمكانية في الطرح الفني من جهة وتذويب الصورة الشعريّة من جهة أخرى. 

ولعل أكثر الضياعات التي يمر بها الشاعر هي استدعاء صورة حلميَّة ماثلة في ذهن الشاعر عندما يحاول توظيفها في قصيدته بشكل رائع ومشوق. 

في كل صباحات غيابك 

أرنو للباب طويلا 

أعرف أنك لا تأتين 

لكنّي من فرط الوحشة ..

أرسم قرب الباب برفة أجفاني 

ظلال امرأة، هي أنت وأقول: صباح الخير

من جانب آخر عندما ننظر إلى كتابات الشاعر بشكل دقيق نجد تأثير الطبيعة واضحا في مخيلة الكاتب حيث النهر والهور والأرض وكل هذه التفرّعات الحياتيّة تشكل مناخا موازيا لحياة الكاتب وملائماً جداً في تشكلاته الشعريّة. 

حين تشيخ الأنهار 

سيكون الهدّام ذاكرة لها. 

***

لا أراه الآن 

غير أني حين أذكره 

أنسى أهدابي على صفحته.

 

ومن جانب آخر يقول الشاعر ريسان الخزعلي في احد نصوصه الشعرية..


هو الآن..

يطرق الباب من داخل البيت..

يودع جمر المسرات دون مصافحة. 

من هذا المقطع الشعري تتفوق نصوص الشاعر طبقا لجدلية التفاعل بين الصورة الشعرية التي تنسجم بين المعنى والحدث التي تأتي من مفارقة الأختلاف في الطرح والصياغة الشعرية. فمن يطرق الباب عادة من الخارج وليس من الداخل فضلا عن الجملة الثانية التي وظفها الشاعر طبقا لاختلاف الجملة الشعرية الأولى (دون مصافحة). 

هذا الاشتغال الشعري الذي يأخذ صفة مغايرة ومتميزة لدى الشاعر مقارنة بالكتابات الموزونة التي دونها في هذه الأعمال الشعرية ايضا لأنها جاءت عبر عناصر متشاكلة عديدة أعطت النصوص الشعرية صفة الادهاش والتفرد عبر (المفارقة/ الصورة/ الاختلاف/ الحدث):  


في الظلام.. 

لاجدوى للمرآة 

الجميع يعبرون متشابهين.