مواجهة الماضي والحاضر.. سقوط بابل

ثقافة 2023/02/06
...

 كامل عويد العامري


في الثاني عشر من  أكتوبر- تشرين الأول من عام 539 قبل الميلاد، سقطت مدينة بابل القديمة الرائعة في يد الملك الفارسي كورش الكبير في ليلة واحدة فقط. تلك العاصمة  لإمبراطورية امتدت من ضفاف نهر الفرات إلى البحر الأبيض المتوسط ومن جبال طوروس إلى حدود شبه الجزيرة العربية، ستصبح بابل مدينة من الدرجة الثانية لبقية تاريخها. فماهي الأحداث الدراماتيكية التي ميزت تاريخها؟ هل نعلم أن إمبراطوريتها الرائعة كانت مجرد عملاق يقف على أقدام من الطين؟ وأن الملك نبونيد، آخر ملوك بلاد “بين النهرين”، نقيض سلفه، نبوخذ نصر العظيم؟، يحقق فرانسيس جوانيس، المتخصص في تاريخ بلاد ما بين النهرين القديمة،  لكشف خيوط انهيار بابل المفاجئ . وهو بذلك يصف حضارة كاملة بجغرافيتها ومجتمعها وثقافتها. إنه يحيي الملك نبونيد نفسه، وكذلك رعاياه، ووجهاء المدن، ورجال الأعمال، وعبيد المنازل أو العمال البسطاء في خدمة المعابد العظيمة، في كتابه ( سقوط بابل) الذي صدر في 31 - 03  - 2022.

[spoiler][/spoiler]


هذا الكتاب هو نتاج تأمل بدأ منذ عدة سنوات في الأهمية التاريخية للأحداث التي وقعت في خريف عام 539 قبل الميلاد. في بلاد ما بين النهرين. والتي أدت إلى اختفاء إحدى الإمبراطوريات العظيمة في التاريخ،  اقترن هذا التأمل بالتشكيك في آخر ملوكها الملك نبونيد.  هذه الشخصية الغامضة، التي اتهمها علماء بابل باغتصاب للسلطة، وعدم الكفاءة والبدع وحتى الجنون، التي لا تزال مجهولة إلى حد كبير، بينما كان عهده هو أحد أفضل ما وثقته المصادر المحلية في الكتابة المسمارية المكتشفة.

أثار هذا التحقيق اهتمامًا خاصًا بهذه الفترة من نهاية القرن السادس قبل الميلاد في الشرق الأدنى، الذي شهد للإمبراطورية الأخمينية الفارسية أن تكون خلفا للإمبراطورية البابلية الجديدة. لقد أتيحت  الفرصة للباحث، في إطار تدريسه للتاريخ القديم في الجامعة وفي العديد من الندوات البحثية، لاستكشاف الجوانب المتعددة لهذه “الفترة البابلية الجديدة” مع طلاب الدكتوراه وما بعد الدكتوراه. “ وقد أتاحت له المناقشات والتبادلات الناتجة بصقل وتوضيح عدد من النقاط.

كان الطموح الفكري أن نجد في تاريخ الشرق الأدنى القديم أحد مصادر حضارتنا المعاصرة، لإعادة بناء تسلسل الأحداث، وتحديد أسبابها ومعناها . ولكن هناك المزيد، عند التعامل مع اللوح المسماري وفك تشفيره،  في تجربة لا يمكن الاستغناء عنها للوصول إلى الحياة اليومية الملموسة لعالم يفصلنا عنه الكثير من الزمان والمكان، بما فيها من سحر الغوص في ماضٍ غامض وبعيد بقدر ما يساعد في فهم حاضرنا.

إذا كانت هناك مدينة معروفة عالميًا بالسمعة، ولكن معظمنا يهرب من واقع ما كانت وما تبقى منها، فهي بابل، باب إيلاني القديم، الذي يعني أسمها الأصلي “باب الآلهة”. يستحضر اسمها وحده، في قلب الماضي البعيد، قوة ملوكها، وروعة آثارها، وثروة سكانها، وتنوع الثقافات التي تلتقي فيها. ولكن غالبًا ما يكون من الصعب تجاوز ذلك وإبراز تفاصيل أكثر تفصيلاً. هل ينبغي لنا بعد ذلك أن نكون راضين عن حالة المدينة الأسطورية هذه أم يجب أن نبحث في المصادر القديمة عن شيء لنعرفه أكثر قليلاً؟ لذلك يجب أن نعود إلى الوراء عبر القرون إلى اللحظة التي ظهرت فيها بابل بكل روعتها، عاصمة إمبراطورية تغطي، في الشرق الأدنى، الجزء الأكبر من الهلال الخصيب، من البحر الأبيض المتوسط في الغرب إلى الخليج في الجنوب الشرقي، أي باستخدام تعبير ملوك بابل أنفسهم، «من البحر من الأعلى إلى البحر من الأسفل». نحن هنا في القرن السادس قبل الميلاد: هذا هو الوقت الذي يواصل فيه الكتبة البابليون، أسياد الكتابة المسمارية المستخدمة في جميع أنحاء الشرق منذ ما يقرب من ألفي عام، دون كلل تدوين استخدامات الحياة الاجتماعية على الألواح الفخارية. 

الكتابة جزء من تقليد راسخ. لكنهم لاحظوا أيضًا تفاصيل الطقوس ونتائج ممارسات العرافة والرصد الفلكي أو قصص بناء العمارة الملكية. إنه أيضًا الوقت الذي تثير فيه روعة الاحتفالات الدينية وقوة ملك بابل جميع سكان المدينة، بما في ذلك أولئك الذين جيء بهم من القدس بأعداد غفيرة  إلى بابل منذ عام 587. سيتذكر كتّاب التثنية هذا عند صياغة الكتاب المقدس ويخبرون كيف أنهى نبوخذ نصر، ملك بابل، سلالة يهوذا الملكية والمعبد في القدس. بعد ذلك بوقت طويل، سوف يستحضر المؤرخون اليونانيون، وفي مقدمتهم هيرودوت (480 - 420)، القوة الهائلة للحكام البابليين والآثار الضخمة التي بنوها في عاصمتهم، فضلاً عن العادات الغريبة جدًا في نظر الجمهور اليوناني التي تنظم مجتمعهم. جزء كبير من وصف هيرودوت رائع ويخبرنا أكثر عن رأي الشعوب المجاورة في بابل وسكانها أكثر من حقيقة المدينة نفسها... وهكذا تم تشكيل مجموعة معقدة من التقاليد من خلفيات متنوعة للغاية، والتي تقدم صورة رائعة لبابل نبوخذ نصر الثاني، لكنها لا تزال زاهية في العديد من النقاط. لذلك من الضروري محاولة العودة إلى مصادر المعرفة من خلال دراسة الوثائق الأولية لبابل، لإعادة دمج المدينة في تاريخ الإمبراطورية البابلية الجديدة، عندما سيطرت على الشرق، بين الحدود الزمنية حددت ولادتها تقليديًا في نوفمبر. 23، 626 قبل الميلاد  ونهايتها في  12 أكتوبر 539 ... لذلك كان من الضروري البدء من ليلة 12 أكتوبر، عندما سقطت المدينة وإعادة بناء ما كان في ذلك الوقت على المحك في ما يتعلق بمصير المدينة، وإمبراطورية الشرق الأدنى التي كانت تمتلكها.هذا البحث فريد أيضًا من حيث إنه يربط بين الجماعية ومستقبل بلاد بابل، والفرد، ومصير آخر حاكم بابل الجديدة، الملك نبونيد. أخيرًا، لفهم وتقدير الأهمية الكاملة لسقوط بابل، والشعور، بطريقة ما، بذبذبات التاريخ، حيث من الضروري أيضًا مواجهة الماضي والحاضر، بأحداث أكتوبر 539 قبل الميلاد. J.-C واحداث عام 2003 من عصرنا، في مقارنة تنويرية بشكل خاص.

الاستيلاء على بابل عام 539 قبل الميلاد.. بغداد – بابل

في صباح 7 نيسان / أبريل 2003، عقد وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف مؤتمرا صحفيا في بغداد ليعلن رسميا فشل القوات الأميركية في محاولتها الاستيلاء على العاصمة العراقية. وفي الوقت نفسه، بث التلفزيون الدولي صورا لمجموعات صغيرة من الجنود والمدرعات الأميركية تتقدم في شوارع بغداد. التناقض بين خطاب الوزير والواقع لم يذهل البغداديين فحسب، بل أذهل المشاهدين في جميع أنحاء العالم. لقد سقطت عاصمة البلاد من دون علم قادتها بذلك... ومع ذلك، إذا نقلنا أنفسنا خمسة وعشرين قرنًا للوراء، فإننا نرى، كل الأشياء التي أخذت  في الاعتبار، أن احتلال مدينة بابل، على يد جنود الملك الفارسي كورش في 12 أكتوبر 539 قبل الميلاد في ظل ظروف مماثلة إلى حد ما مع ذات التنافر، على ما يبدو، بين التقييم الرسمي والواقع. 

في الصباح الباكر من يوم 12 أكتوبر 539 قبل الميلاد، اكتشف سكان بابل بدهشة أن مجموعة كبيرة من الجنود الفرس قد دخلت مدينتهم وتمركزت حول أهم معالمها: إيساكيلا  المعبد الرئيسي لعبادة الإله مردوخ، ببرجها المتدرج، والزقورة المسماة إيتيمينانكي [بالسومرية إي تيمين أن كي ومعناه المعبد الذي بين الأرض و الجنة]، وربما القصر الملكي الواقع شمال المدينة، لكنه لم يكن في ذلك الوقت مقرًا لحاكم الإمبراطورية نبونيد.فقد كان لا يزال متعسكرا مع الجيش البابلي على بعد حوالي مئة كيلومتر شمالاً، حول ملتقى نهر دجلة على الضفة اليسرى من رافده نهر ديالى. كان يحاول منع تقدم الجسد الجيش الفارسي هناك، بينما كان قد دخل بابل قبل أيام قليلة.. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أحتلت فيها مدينة بابل من قبل خصم من الخارج: ففي عام 690 ثم في عام 648 قبل الميلاد، فرض الملوك الآشوريون، سنحاريب ثم أشور بانيبال حصارًا على المدينة التي ثارت ضد سلطتهم (كانت بابل في ذلك الوقت تابعة للإمبراطورية الآشورية) وأجبرت السكان على الاستسلام، قبل أن يستعيدوا سلطتهم بوحشية. ولكن منذ عام 626، استعادت بابل استقلالها وسيطرت على الشرق. لن تصبح مدينة بابل مرة أخرى في القرون التالية، التي لم يكتمل وجودها بعد - ستبقى على قيد الحياة ستمئة عام أخرى على الأقل - عاصمة لدولة مستقلة تتمركز حول البلاد الواقعة بين النهرين.

كانت النتيجة الفورية التي أدركها سكان الإمبراطورية البابلية أنهم تخلصوا أخيرًا من ملكهم نبونيد. ولكن، مثلما لم تفهم السلطات العراقية في عام 2003 على الفور سقوط بغداد، لم ير البابليون أن صفحة من تاريخهم قد طويت للتو وأن دعاء النبي أشعيا، كما في الكتاب المقدس الحالي ( إشعياء، الفصل 5) - “سقطت، سقطت بابل العظيمة،! - قد أصبح حقيقة.

ومع ذلك، يجب أن نبدأ بإعادة بناء الأحداث هذه  لأن هناك العديد من الروايات عن سقوط بابل .

لا يوجد تدوين معاصر تمامًا للحادثة التاريخية، لكن هناك مصادر محلية، باللغة الأكادية، مع روايات مجمعة في نهاية القرن السادس قبل الميلاد، بعد سنوات قليلة فقط من الأحداث. منها  أسطوانة قورش أو الكتيب ضد نبونيد. ثم  السرد التاريخي الذي يسمى تاريخ نبونيد أو العمل المسمى بايبلونيكا أو حرفياً «التاريخ البابلي»، الذي كتبه بيرسوس باليونانية  وهو مؤرخ كلدي من بابل، الذي لم يبق منه سوى إشارات متفرقة في الأدب اليوناني اللاتيني. وتضاف  إلى هذه المصادر على الأقل روايتان لمؤرخين يونانيين، رواية هيرودوت، في القرن الخامس قبل الميلاد.  و كسينوفون، في الرابع ق.م. وأخيرًا، يذكر الكتاب المقدس الحدث مرات عدة في سفري الأنبياء إشعياء ودانيال. ولا يزال تاريخ كتابة هذه المقاطع التوراتية موضع نقاش، فهي متأخر بالتأكيد لعدة عقود، وحتى عدة قرون بالنسبة إلى سفر

دانيال .

من الممكن حسب النص التاريخي بالخط المسماري، (وقائع نبونيد)، من إعادة بناء الأحداث  والتي ستكون على النحو التالي: في ليلة 11 إلى 12 أكتوبر، 539، كانت فرقة من الجنود الفرس بقيادة رجل يدعى غوبارو  قد دخلت مدينة بابل عبر بوابة أنليل، الواقعة شمال غرب المدينة، على الضفة الغربية لنهر الفرات. لقد نجحت في تحييد الدفاعات والحامية البابلية للبوابة. 

عندما علم نبونيد أن المدينة قد سقطت في أيدي الفرس، عاد إلى بابل بمسيرة قسرية لكنه لم يستطع استعادة السيطرة ووجد نفسه بدلاً من ذلك أسيرًا. ومع ذلك، فإن مقتطفًا قصيرًا من الكتيب ضد نبونيد، أيضًا بعد الاستيلاء على بابل، يستدعي بشكل فريد ما أعلنه الوزير محمد سعيد الصحاف، الذي ينفي تقدم القوات الأمريكية في نيسان 2003 .

أما بيرُسوس، الباحث البابلي من العصر الهلنستي الذي كتب باللغة اليونانية حوالي عام 280 قبل الميلاد،  بايبلونيكا، فيضيف تفاصيل إضافية: (في السنة السابعة عشرة من حكمه [= نبونيد]، تقدم كورش نحو بلاد بابل بعد أن خرج من بلاد فارس بجيش عظيم وأخضع ما تبقى من المملكة. عندما أُعلن هذا الغزو، جاء نبونيد للقائه بجيشه وخاض معركة. ولكن بعد هزيمته، هرب برفقة حراسة صغيرة ولجأ إلى مدينة بورسيبا. في هذه الأثناء، استولى كورش على بابل وأمر بهدم الأسوار الخارجية للمدينة حيث بدت المدينة له محصنة بقوة ويصعب الاستيلاء عليها. ثم سار كورش إلى بورسيبا لمحاصرة نبونيد. لكن نبونيد سلم نفسه دون انتظار الحصار. عامله كورش بإحسان، ومنحه كرمانيا (منطقة شرق بلاد فارس، فوق مضيق هرمز) كمقر إقامة له وأبعده خارج بابل. لذلك مات نبونيد بعد أن أمضى بقية حياته في هذا البلد.)

إن جميع الروايات تتفق طبيعة الاستيلاء على المدينة على نحو مفاجئ. يعزو المؤلفان اليونانيان هيرودوت ثم زينوفون ذلك بشكل أكثر تحديدًا إلى حيلة كورش، الذي كان سيجفف نهر الفرات عن طريق تحويل مساره مؤقتًا إلى مجرى بحيرة ودخول المدينة من قاع النهر غير المحمي. يقول هيرودوت في التحقيق على النحو التالي:

[...] عبر قناة حول [كورش] نهر الفرات إلى البحيرة، التي لم تكن في ذلك الوقت أكثر من مستنقع، بعد ذلك، تمركز الفرس على حافة النهر، وبعد أن رأوا المياه تنخفض لدرجة أنها كانت تصل إلى منتصف الفخذ على الأكثر، توغلوا في بابل بهذه الطريقة. […] لقد تفاجأ البابليون بالعدو. ووفقًا لأهالي البلاد، كان الفرس بالفعل يسيطرون على الأطراف بحيث لم يكن لدى سكان المركز أي فكرة عن وضعهم: لقد كانت عطلة وكانوا يرقصون ويستمتعون، بطقوس أكيتو إله القمر بموكب رسمي للآلهة الرئيسية في المدينة، حتى عندما علموا الحقيقة.سرعان ما أثبتت الصدمة الناتجة عن الاستيلاء على بابل أنها قوية في بلاد ما بين النهرين السفلى،  والإمبراطورية البابلية بأكملها. أدى هذا أولاً إلى فقدان موارد الإمبراطورية، حيث صارت الأراضي الغربية  تحت الوصاية الفارسية، وتوقف دفع الجزية التي كانت تغني بابل: فقد كانت الأموال تتدفق إلى بلاد فارس؛ وبالطريقة نفسها، كان جزء كبير من موارد بابل يتجه نحو عواصم الإمبراطورية الجديدة: باسارجاد عاصمة للأخمينيين، ثم سوسة  وبرسبوليس التي تسمى أيضا

( تخت جمشيد). 

وللسقوط أسبابه، ففي بداية عام 553، بعد عامين ونصف فقط من الحكم، معتقدًا أنه قد عزز وضع الإمبراطورية بشكل كافٍ من خلال إصلاحاته الداخلية وحملاته العسكرية في قِيلِيقِيَة [منطقة جغرافية في جنوب الأناضول]، قاد نبونيد الجيش البابلي نحو منطقة لا تزال غير معروفة إلى حد كبير، شبه الجزيرة العربية، بلاد العرب”الذين لا أبواب لمساكنهم ولا أقفال”. لا أحد يعرف حينها، وربما حتى هو، أن هذه الحملة ستبعده عن عاصمته عشر سنوات، مما يثير الفزع  وغضب الدوائر التقليدية المرتبطة بالسلطة الملكية في بابل. من المؤكد أن البلاد لم تُترك لنفسها لأن ولي العهد الأمير بيلشاصر هو المسؤول عنها. لكن الملك الفخري غائب عن عاصمته؛ الذي بقى في واحة تيماء، على بعد 1000 كم من  بابل، بعيدا من تنظيم  الإمبراطورية السياسي، حيث يعود كل شيء إلى الملك، بينما كان هناك  توازن للقوى على الهضبة الإيرانية، على حدود الإمبراطورية البابلية من الشرق مع ظهور كورش الفارسي، ملك أنشان أول عاصمة الملوك الأخمينيين.

إذا لم تكن حملته العربية سبب سقوط الإمبراطورية عام 539، فمن المحتمل أنها ساهمت في

إضعافها.