خسارة المناسبة أم الاحتفاء بها؟

ثقافة 2023/02/06
...

 ياسين طه حافظ


قبل أن أواصل الكلام في ما لا يرضي، ابدأ بهذا السؤال: هل يعقل أن ناساً معنيين باللغة، علومها وفلسفتها، يسمون لغتهم، بكل قدراتها وخصائصها ومداها التعبيري، بـحرف من حروفها؟ صحيح أن هذا الحرف نادر في اللغات الاخرى ويتعاون حرفان على القرب من لفظه، لكن ما هو امتيازه وما هي عظمته لكي تسمى اللغة باسمه؟ على العكس هو حرف غير مريح لفظاً، وفي إملائه إشكال مع الظاء القريبة منه.


لا شكَّ أن العربية لغة ذات شأن، بل هي أحد أكثر اللغات القديمة اتقاناً، وأكثرها أنظمة، ونحواً، وتصاريف. وللعربية موسيقى يدركها القراء بادغاماتها ومدها والوقف، وأن موسيقى الحروف فيها تتفاوت باختلاف المقامات المعتمدة في القراءة. كما أن قدرات العربية في الصرف وغناها بصيغ المبالغة ومرونة الدلالات في الالفاظ هي مما يفتخر به وما يمنح اللغة مقدرة تعبيرية أرقى. وتلك هي الغاية القصوى لأية لغة. لكن اللغة وسيلة تعبير وليست وسيلة لعب. وفي مناسبة مثل يوم اللغة أو يوم الضاد، ننتظر رأياً علمياً جديداً في مسألة من مسائلها ودراسات حديثة تضيف جديداً لما نعرف ولما كررته وأعادت تكراره الكتب. 

يبدو لي أن بعض المعنيين بها يجهلون كشوفات اللسانيات والاصدارات الحديثة في علوم اللغة أو أنهم غير مبالين بها. ماذا يعني هذا؟ يعني القول بما تحت اليد وما في الكتب التي ورثناها. العصر لا يعنيهم وثقافة العصر الجديدة لا تعنيهم. فنحن نسمع منهم ما نعرفه.. 

إن ما ترجم من علوم اللغة، من بحوث ودراسات ليست قليلة وما يصدر في اللغات الاجنبية هو اضعاف ما يترجم. أما أن يخرج أستاذ ويقول لي إن العربية لغة الأمة أو أنها لغة الضاد أو نزل فيها القرآن، فهذا الكلام ما عليه غبار، ولكن ألا يخجل قائله من تكراره علينا بعد كل الدراسات والكتب والنظريات التي صدرت في اللسانيات؟ ألا خجل من الناس الذين ينتظرون في اليوم المخصص للغة نظراً جديداً أو معلومة جديدة لم يسمعوا بها أو ذكراً لما صدر عنها؟ 

الصفحات الثقافية في الصحف اليومية لا تريد تجاوز المناسبة، هذا حسن. لكن لتكن المساهمة بمادة مهمة أو في الأقل جادة، عرض كتاب جيد جديد في اللغة وهو أقل المستطاع، لا الانشاءات الفارغة وما يشبه كلام الصِبية. العلمية مطلوبة حتى في أقل الكلام ما دمنا نتحدث في موضوع له علماؤه المتخصصون به وله ناسه المعنيون به. لتكن المقالة قصيرة، لا بأس. لكن لا تكن انشاءً من اولئك المحشوين تعابير..

اكتملت الإنسانية حين اكتملت لغتها، حين امتلأت لغتها بما يحتاج له الإنسان في الأرض. لم تكن البشرية قبل ذلك بتمام معناها أو كمالها. والعالم الذي نطلق عليه «الإنساني» ليس كذلك إلا في حدود احالته على معنى – وهنا أذكر سعيد بن كراد بالخير – وإلا فقد كان في مرحلة تقارب العماء. والتحول الذي عظم في التطور البشري انما كان بحكم قدرته على تجاوز حدود المباشر إلى غايات جديدة. المباشر صار معنى والمعنى صار رمزاً وصارت للرمز أبعاد. هكذا اتسعت الإنسانية وتضاعف الوجود والكون حولها عشرات المرات. عمل هائل العظمة والأهمية كان امتلاك اللغة. فان ندرسها وأن نجد مناسبة للاحتفاء بها ونتحدث بها بما هو جديد عنها، ذلك جيد مفيد، شرط أن نبدأ مما وصلنا إليه. أعني من مرحلة العلامات ومما تراه السيمياء. وكيف تتخلل الإنسانية هذه العلامات وكيف ترتسم الدلالات ويحضر المعنى. العلامة آخر تطور الرموز. «وبفضل العلامات استطاع الإنسان أن يتخلص من الادراك الخام ومن التجربة المباشرة، كما استطاع أن يفلت من سطوة «الهنا» و»الآن»..» كما ينقل بن كراد عن

امبرتو ايكو». 

وهنا تماماً منطقة الأدب في الدراسات اللسانية، وهنا يصير الحديث الذي كان عن اللغة، حديثاً عن الإنسان وصلاته بالكون وبمفردات الحياة حوله. وبمثل هذه صار الكون حولنا لنا. وصار كل ما نراه رمزياً. وهنا وجد الشعر عالمه الأوسع وصرنا جميعا رمزيين..

ما أردت أن يخرج الحديث إلى ما لم أكن أقصده، ولكننا بعد الدراسات اللغوية الحديثة صرنا نفهم اللغة فهما آخر ونفهم جوانب من الأدب مهمة فهماً آخر وصارت لعلاقاتنا الإنسانية أسس تخفف من المادية التي كانت والتي الفناها. صرنا أرقى! 

تمنيت وأتمنى في مناسبات كهذه أن نخرج من المراسم الرسمية واسترضاءات المؤسسة أو الدولة بالألفاظ المعروفة والديباجات المتفيقهة إلى الثقافي، إلى العلمي النافع، وبعيداً عن «الدروع» المضحكة وما يسمونها بـ «الشهادات التقديرية» إلى ما فيه جدوى علمية وإلى ما يشجع على بحوث جديدة ويمنح فرصاً لبحوث أو لترجمة أو لصناعة فهارس وتصانيف. عموماً، إلى عمل جاد مثمر في اللغة ودراساتها بدلا من هذه الخزعبلات اللفظية. منذ سنين ونحن نحتفل بيوم لغتنا العربية أو كما يسمونها لغة الضاد لم أشهد عملاً جاداً! ليس غير ثناءات تشبه مدائح الملوك والولاة، كرمهم وسلطانهم وسعة الجاه وندرة المثال.. بهذه السذاجة وهذا التبسيط تجري مراسم الاحتفاء باللغة كما بشخص ناجح أو تسنّم منصباً جديداً. للأسف كذبٌ، كذبٌ كثير في حياتنا. 

فمعذرة ايتهااللغة.