مارتن هايدغر وهيمنة الشعر

ثقافة 2023/02/07
...

 عادل الصويري


ينفي مارتن هايدغر، سلطة الذات على الشاعر لحظة الكتابة الشعرية. فالشعر عنده يتجاوز صاحبه، وهو بذلك يُخالف فكرة الإلهام التي اعتقدها افلاطون في نظرته للشعر. يشدد هايدغر على إمكانية استبعاد اسم كاتب القصيدة، وأن فهم الشعر لا يأتي من خلال جهد الشاعر الفردي في الكتابة، بل يأتي من خلال انسجام علاقته مع اللغة، وفنّية الاشتغال التي أطلق عليها تسمية "العمل الفني". وقد رأى هيمنة الشعر على كل الفنون، بدعوى أنَّ جوهرها جوهرٌ شاعريٌّ. وقد توصل إلى هذه الرؤية بعد قراءات لعدة شعراء، وأعمال فنية لبعض الرسامين العالميين. وقال بضرورة نسب الشعر كذلك لفنون العمارة والموسيقى والتصوير. والشعر عنده يرجع إلى أصل الكلمة اليونانية  poiemata والتي تعني (الخلق)، ويعد كل تلك الفنون التي نسبها للشعر تتضمن فعل الخلق والابداع، ويقول: "الشعر طريقة من طرق تصميم الحقيقة".

وفي العلاقة الملتبسة بين الشعر والفلسفة؛ رأى هايدغر في كتابه (الوجود والزمان) أن بإمكان الشعر تجاوز اللغة الفلسفية القابعة في شرنقة الوجود وأسئلته ذات البعد الميتافيزيقي، بينما يختلف الأمر مع الشعر الذي يصل إلى حقيقة الوجود ببساطة، ويقود إلى التأمل والتفكير بشاعرية. بهذه الرؤية، أسس هايدغر لفكرة التجاور مع المخيال والغيب. 

هي فكرة احتضان العالم التي ترتكز على التصوير، أكثر من تركيزها على التعقل، أو شرح المفاهيم بشكل غير شاعري.

إنَّ الذي جعل هايدغر يصل إلى نتيجة أنَّ القول الشعري بإمكانه تجاوز الفلسفة بإطارِها الميتافيزيقي؛ يعود بالأساس إلى علاقة التجاور الوثيقة بين الشعر والفكر، وأنَّ أعظم تمثيل لهذا التجاور، كان في مرحلة الإغريق، حين كان التفكير يأخذُ طابعاً شاعرياً؛ لذلك ركَّز هايدغر على ضرورة تحرير الفلسفة من اغترابها، وجعلها تقدم الفكر على طبق شاعري؛ ليكون القول الشعري "الصورة الأولى للفكر"؛ لكونه يتماهى مع المقدس، في الوقت الذي نبذته الفلسفة.

فالتجاور بين الفكر والشعر كفيل بإضاءة ما سكتت عنه الفلسفة، وقادر على الانفتاح على مديات تكشف المخفيَّ من الوجود؛ لأنَّ هايدغر يرى أنَّ أرضيتهما واحدة، وهي الوصول إلى حقيقة الوجود.

ولم تكن الرؤية الهايدغرية عبارة عن تنظيرات فقط؛ فقد أقام مارتن هايدغر تطبيقات فعلية على بعض القصائد الشعرية التي ظهرت فيها ملامح البحث والكشف عن الحقيقة عبر التأمل الذي من شأنه أن يطيح بسيطرة الحسابات الميتافيزيقية في الرؤية إلى الوجود. هذا التأمل من شأنه أيضاً إضاءة اللحظة التي نقف فيها وعليها، وكذلك يرسم خريطة طريق واضحة للفكر الذي يحاور الوجود بالأسلوب الشعري الذي يثير الأسئلة الكثيرة، ثم البحث عن إجابات، بدلاً من الانقياد للإجابات التي قُدِّمت كَخُلاصات نهائيَّة تتموضعُ فيها الحقيقة. هذه الأسئلة كفيلة بالوصول إلى الحقيقة عن طريق الفكر المقيم في العمق الشعري.

ومن الشعراء الذين اهتم بهم مارتن هايدغر، في صياغة رؤيته هذه؛ الألماني هولدرلين، الشاعر المسكون بالنبوءات والميثلوجيا اليونانية، والحنين الدائم إليها، فضلاً عن التوتر، والتفكير في حقيقة الوجود الذي أراد اكتشافه من خلال تأمل وردة. كان لهولدرلين بعض المواقف السلبية من رجال الدين، رغم أن والده كان قِسَّاً، ووالدته ابنةُ قسّيس. وبالتأكيد انعكست هذه المواقف على نظرته للحياة، ومن ثم أخذت مساحة واسعة من قصائده التي جعلت هايدغر يعلن ثورته الفكرية. كان هولدرلين يريد بالشعر شرح كل شيء كما يراه ويتأمله بحرية، ويتجلى ذلك بشكل صريح ومباشر في قصيدته (ذكرى): "وَحُرَّاً أريدُ ما يسمحُ الوقتُ تفسيرَكِ وغناءكِ يا لُغاتِ السماءِ

كُلَّها".

في ترجمته لقصائد هولدرلين؛ قال فؤاد رفقة: "لماذا العودة إلى الشاعر هلدرلن؟ ما معنى الالتفات إليه في هذا العصر؟ ما العودة لهذا الشاعر رجوعٌ إلى الوراء، بل خطوة إلى الأمام، إنها خطوة أمامية لأنها تعيدنا إلى الشعر. لأنها تنقذنا من أزمنة الضيق، وتجعلنا نرى أن الكلمة الشعرية اكتشاف

وتأسيس".