إرادة الإنسان وصراعات التحدي

آراء 2023/02/07
...





 سوسن الجزراوي

عام 2005، اتيحت لي فرصة المشاركة في (سيمنار) وهو كما معروف بالعربية، حلقة نقاشية أو ندوة موسعة، كانت قد أقامتها الخارجية البريطانية بالتعاون مع هيئة البي بي سي .

المكان الذي كان محطة الإقامة هو مدينة (برايتن) في جنوب المملكة المتحدة، حيث كانت تدار جلسات النقاش اليومية حول الواقع الإعلامي في الكثير من دول العالم، مروراً بتجربة شبكة الإعلام العراقي التي كانت قد أنشئت على غرار نظام البي بي سي.

ما قادني لهذا الاستذكار، هو توقف هيئة الإذاعة البريطانية عن عملها بعد أكثر من ثمانية عقود من العطاء الكبير والحضور الفاعل في خارطة الإعلام المسموع، واستعرضت شريط ذكرياتي عن تلك الرحلة التي أبحرنا فيها في عباب ودهاليز تلك الهيئة العريقة، هنا أنا لست في مجال مناقشة فكرة التوقف هذا وأسبابه الاقتصادية أو غيرها، بقدر ما أردت استعراض إرادة الإنسان وقدرته على تحدي الصعاب مهما كانت، وإنجاز أعماله على الوجه الأكمل، ففي تلك الجولة المحفورة في الذاكرة، أقف أمام امرأة كبيرة في السن قد تصل إلى عقدها الثمانيني دون أية مبالغة، أنيقة الملبس كيسة الأخلاق بشوشة الوجه، يرتجف جسدها الذي أجهز عليه تقدمها في العمر، إلا أنها كانت تسابق الريح أثناء سيرها أمامنا بكعبها العالي وحقيبتها الجميلة وهي تستعرض لنا أقسام هيئة الإذاعة البريطانية، ولم يكن هذا الصرح العملاق وحده مثار اهتمامي في جولتي تلك فقط، إنما قوة تلك المرأة المثابرة المتمكنة من عملها وتحديها الواضح لسنوات العمر وقدرتها على قيادة مجموعة من الإعلاميين متنقلة بنا من قسم إلى آخر.

إنها بلا شك الإرادة التي ننحني احتراماً لها، لأنها عكست مدى شجاعة الإنسان وهو يصارع تحديات الحياة بكل أشكالها.

ولأن التقدم لا يتحقق دون منافسة وصراع لما يحيط بالإنسان من أسلاك شائكة، كان لا بد من حضور هذه الإرادة، فالنجاحات يصنعها الأشخاص، والقدرة على المطاولة والاستمرار لا تأتي عبثاً، فهي الركيزة الأهم في بناء الدول والمجتمعات.

وأستغرب أحياناً كيف يضع البعض مهمة النجاح على عاتق الشباب حسب، فالغرب بشكل عام وأقصد الغرب المتقدم، لا يعترف بالسنوات العمرية مقياساً للعمل والوصول إلى الأهداف، والدليل على هذا وفي عودة إلى ذلك (السيمنار) الإعلامي، كانت هنالك عقول جبارة لأشخاص كبار في السن، تقود هذه الحلقات النقاشية وتغنيها وتتفاعل مع العقول الشابة في تناغم قل نظيره، فلم يكن البروفيسور المحاضر متمسكاً برأيه ولا فارضاً خبرته على المجموع، إنما كان هنالك حوار ودي عملي دقيق مهني تتصاعد حماسته باحترام وجهات النظر وتصحيحها باقناع مدروس ولطف كبير أحياناً.

يقول عالم الاجتماع (كارل مانهايم) : الأشخاص يتأثرون بشكل بارز بالبيئة الاجتماعية التاريخية وعلى وجه الخصوص الأحداث (التاريخية) التي يشاركون فيها بنشاط والتي تسيطر على شبابهم، ما يشكل على أساس تلك التجربة، أجيالاً اجتماعية أصبحت بدورها عوامل للتغيير، وتعطي فرصة لبروز أحداث تشكل الأجيال المستقبلية.

وعلى هذا الأساس، يرى الكثير من الشباب، أن التغيير مرهون بقدراتهم الخلاقة المرتبطة بالحداثة والتجديد، وأن وجود الكبار يعد عائقاً كبيراً أمام هذا الجموح المطلق، متناسين بقصدية أحياناً وبغرور أحياناً أخرى، أن الخبرة التراكمية تكاد تكون هي الفيصل في الكثير من مفاصل الحياة العملية، لأنها استندت على ترسانة التجارب الكثيرة التي مر بها هؤلاء الأشخاص ممن تجاوزت أعمارهم عقودها الستة والسبعة، وما عاصروه من أحداث ونزاعات منحتهم فرصة الاستفادة من تفاصيلها وبناء شخصياتهم التي جعلت منهم قياديين وتربويين ومنظرين وغير ذلك.

ولا غرابة إذا توقفنا عند مفهوم الفرق بين من يسير باتجاه هدفه مبحراً أو راكضاً، والآخر الذي ينتظر أن يتقدم الهدف باتجاهه دون أن يحرك ساكناً، مثله مثل المهاجم الذي يقتنص لحظة تسديد الرمية، والمتفرج الذي يستأنس حين يحصل على مبتغاه دون أن يبذل جهداً، لأن هذا (المفهوم) إنما هو المعيار الحقيقي لإرادة الإنسان وشجاعته في المنازلة مع الحياة.