ماؤنا والأحزان

ثقافة 2019/04/09
...

ياسين النصير
لا تعرف ثقافة وادي الرافدين، شروراً للماء، على العكس من الثقافة المصرية التي توارث ثيمة الماء الموت، عندما يفيض النيل فيأتي على اخضر مصر ويابسها، في حين ان الماء الرافديني ارتبط بالمنح، والربيع، والرخاء والشعر، والثورة، والأسطورة، وهو على العكس مما أريد له ان يكون في حادثة غرق العبارة في الموصل، أو جسر الأئمة في بغداد، فهو في الشح وفي المنح، يتصرف كما لو كان مداً وجزراً، يمنحنا سقياً، ثم يأخذ فضلاته. 
ليس عطاؤه خيراً فقط، ولا شحه نقمة فقط. ومع ذلك ترتبط مأساة كربلاء  في جزء منها بالعطش، مع أن الفرات غني معطاء. الثيمات الأسطورية تلغي الرؤية الواقعية لمعنى ارتباط شح الماء بالموت،فقد يكون الشح كالزيادة نتيجة الفساد،ويعطينا تصورنا الشعبي للماء ثيمة الخير الواقعي، وليس إرتباطاًبالإرادة السماوية، كل ما في الأمر، أن الماء الذي منه تنبع كل الحيوات”وجعلنا من الماء كل شيء حي” قوة من قوى الموت.،لأن الحياة/ الموت كينونة فيه، ولهذا وجد الشيطان فيه ما يغذي غريزة الانتقام، ليظهر لنا وكأنه يمارس طقوس الموت. فالفعل الذي حدث في جسر الأئمة، وفي عبارة نينوى وغيرهما.يمثل وضعاً مأساوياًلطرائق التفكير الشعبية، من أنه يستبطن الشر، وان الله أراده أنيكون بهذه القسوة. في حين ان صناعة الفكرة تتم في أروقة الذين لايفقهون إلا الاستسلام للأقدار دون درئها.
لن نتحدث عن مثيولوجيا ماء الرافدين، وغناها الروحي والشعري، ولا عن هوية العراق التي ارتبطت بهوية دجلة والفرات،بالرغم من انهما لاينبعان من الأرض العراقية، ولا يصبان فيها أيضاً، لذا يكون النهر بمفهومه المثيولوجي والطبيعي جسداً يغذي تربة الرافدين، ويشكل  مفهوم المجرى الأسطوري ديمومة لأرض الرافدين، المجرى المعني بهوية العراق.
ما يعنينا في هذه الإطلالة، هو أن الماء الصورة، الماء الرؤية، الماء الكينونة، مركب من عاطفة وحب ممزوجين بالطين والريح والنار، وجدلية هذه الجمل الثلاث متوفرة في ماء الرافدين، لا نقول أنها غائبة عن الشعراء والروائيين فقط، إنما هي غائبة عن الأعياد، والحياة اليومية، عن الشعر الغنائي، عن المسرح،عن التصاق الإنسان بكينونةالطين والقصباء والزرع والسقي والمطر والينبوع والمصب. ولذلك عندما يشح الماء الرافديني نلجأ إلى العيون، ونندب حظنا التعس ان لايوجد من يخطط لإدامة حضورالماء في حياتنا، ولسهولة العلاقة،وهامشيتها، أن جعلنا ماءنا بيد مصادر عدائية، تقطعه حين يكون لها موقف،وتعطيه حينما نكون قدراً لمصائرها، والسبب هو تلك النغمة المتخلفة التي تتمنطق بها السياسة البراغماتية التافهة. ساقترب كثيراً، من وجعنا الشعري، عبرعلاقة الأدب بالماء،فالسياسة تجفف العطاء وتفقره إذا اديرت من قبل أناس لايشبهون ماءنا الوطني. في الشعر لايرى الماء كمفردة إلا من خلال عجائنه اليومية،وهو يتغلغل في لغتنا وخبزنا وأبصارنا وأجسادنا وطرائق عيشنا، هو الكلمة التي لا تحددها الحروف عندما نقول الماء حياة،فالمفردتان (ماء /حياة) ليستا مكونتين من حروف هجائية وتكتفيان باللفظ، ولاكلماتتحتويها قواميس اللغة،بل هما ما يشكل فيهما كل لغات الأرض، وكل معاني الحياة والوجود، هكذا تكون الكلمة الشعرية طاقة إلهية تتغنى بها الأمكنةوالعصور، ويصبح غناؤها  نشيداً وطنياً “يادجلة الخير” هو ذاك النداء الكوني للحياة التي حبت الطبيعة بها بلاد الرافدين. 
يقول بول كلوديل” كل ما يرغبه القلبُ يمكن دوماً أنيختزل إلى صورة الماء” ثمة وشيجة لا مرئية بين الماء والأحزان، لا اعتقد أن أحدنا بمقدوره تلمس هذه القدرة التي للماء بحيث يصبح بالرغم من أمومته واخضرار الأرض والبشر، ثمة ما هو قاس فيه، هذه الصيغة من الماورائيات التي لا تظهرعلى سطح الماء، تنبئنا القوى المثيولوجية بأن للماء قوى، وليست قوة واحدة، هذا الدفق في عنف الأمواج، يقابله هذا العنف الخصيب في الشلالات، وهذا المجرىالهادئ الذي ينساب إلى السواقي والمزارع ، ثم يغور ثانية ليحيي باطن الأرض، يطعم الجذور، ومع ذلك فقوى الماء قوى عنف لقتل الأحياء الضارة، كما هي قوى منح وعشق. هنا، ومن هذه الطاقة المضمرة، لا يرى الشعراء في الماء إلا صورته الرمزية، أعني الخصوبة، بينما وهو يخصب، يقتل أيضاً.
للمجرى الذي نشاهده وهو ينساب كعروس بعد ليلتها الأولى، خاصة في ايام الطفولة والشباب،طاقة على توليد الصور، حركية الماء يلألئ صوراً تحت الضوء، تموجات الستائر واثواب العرس،وكلمات نشيد لطفولة الأرض. وأنا انظر من زاوية ملتقى النهرين في القرنة، لتلك السورة المائية العنيفة، وهي تدور كالكرة النارية، تقضم ما يقترب منها،وتلقي به إلى أعماق الماء السحيقة، تستبطن العنف بقوة لا تضاهيها أية قوة أخرى، ولذلك كنا نرى أصحاب الزوارق الذين ينقلون المتسوقين من القرنة إلى قراهم في السويب، يتجنبون هذه السورة العنيفة، وثمةحكايات وقصص تمتد لعشرات السنين لسفن غرقت وفيها سبائك ذهب،وحين دفنت بالماء، نهض تاريخها، ومع هذه الصورة الشعبية ، تنمو حاسةتحويل السبائك إلى حكاية عن السلطة، عندما تكتب شيئاً عن الماء تستحضر كل طاقة التأمل فيه، بما فيها طاقة الحرمان ،فغالباً ماكان النهران يغضبان على قرانا، ويغطي ماؤهما قيعان النخيل وبيوتنا، يصاحب فيضان النهر عنف ماء الأهوار،ونبقى ننتظر طائرالطيطوي ليقول لنا “شيلوا” فقد جاءكم نزف الأعماق الدموية بهيئة الماء الممزوج العذوبة مع أملاح البحر، هي الصورة الكثيفة التي تغذي شعرية قلقة لصورة الفيضان،لعل القاص محمد شاكر السبع،والقاص الكبيرفهد الأسدي قد صورا وبدقة،كيف يصبح الماء سلطة قامعة للخيرات، وفي الوقت نفسه تتحول قيعان الماء إلىاقطاعيات بيد رجال السلطة ورجال الدين، وتصبح الاسماك والطيور ملكا لراع يلبس ثوب السلطة ويضع علىرأسه عمامة التقوى، هذه الكينونة من أفعال القوى التي تقع تحترحمةالأقدار، عندما كانت مقدراتها ترسم صورة شعرية مأساوية، لحياة أناس جبلوا على العيش مرغمين بين شح ووفرة.
 لقد اكتشف البحارة، أن الماء قبر، هكذا كانوا ومازالوا يدفنون موتاهم في الماء،إذا ما الصورة التي سيكون عليها القبر؟ هنا على الأرض ثمة أحفور تدربت عليه ايدي الحفارين، فأصبح جزءًا من طقوس مبهمة، وهناك، حيث تحول البحر كله إلى لحد، ترى ما سيفعل الماء بالجثة، أو ماذا ستفعل الجثة بالماء؟ تعيدنا المثيولوجيا، إلى صورة الحياة/الموت، الطاقة المتناقضة لتي يولدها ماء الأعماق، تلك البقاع المجهولة من ذاكرتنا عن البحر،. فالماء دم حي كما يقول بول كلودل، الماء دم هذا ما تخلص إليه صورة الغرق،  تمنح زرقته هدأة السماء، بينما تجسد أعماقه ظلمة القبر القاسية، ماذا يشكل رحيل الموتى في جريان الماء؟ ثمة شعرية ترسمها صورة كونية لرحلة مأساوية مثل التي حدثت على جسر الأئمة، وعبارة نينوى، رحلة مصحوبة بنداء، مكلوم، الماء حين يكون سببًا في قطع الحياة يكون طاقة لتوليدها أيضا، وهكذا عاش انسان الرافدين،منذ أن رأى كلكامش في نومه ؟كل شيء “ علينا أن نمزج بين نعمته ونقمته. فمصائر الناس لا تحددها رؤية واحدة.