إرهاب الميديا

آراء 2019/04/09
...

عباس الصباغ
الحالة المطريَّة التي داهمت العراق في الآونة الأخيرة هي حالة موسميَّة معتادة تتفاوت معدلاتها بين سنة وأخرى، فقد كانت في العام الماضي أقل من معدلاتها السنوية العامة، بينما هذه السنة كانت أكثر منها بكثير، وهي معدلات طبيعيَّة في كل الأحوال ولا تخصّ العراق وحده الذي تتشكل خرائطه الطقسيَّة في إقليم اعتاد على هذا المنوال. ولكن! وإنْ كانت الحالة المطرية هذه السنة أعلى من معدلاتها السنوية الى درجة حدوث فيضانات وسيول اتت اكثرها من دول الجوار التي تنحدر منها المياه كالجارة ايران، او المناطق المتاخمة للسدود وما احدثته تلك الحالة من إضرار في البنى التحتية وعلى الواقع الزراعي للبلد وما اوقعته من خسائر فادحة فيه، ما سببت الكثير من المعاناة للمواطنين الذين يعانون أساساً من تردي الواقع الخدمي لمناطقهم أو من سوء الحالة المعيشية لأكثرهم، ففاقمت الحالة المطرية من معاناتهم بسبب تداعي أغلب البنى التحتية لمناطقهم وغرق الكثير منها، ومع كل ما تقدّم فإنَّ هذه الحالة والسيول التي رافقتها لم تصل الى مستوى الكارثة الوطنية ـ لا سمح الله ـ كالتي تحدث في بعض البلدان التي شهدت فيضانات كبلدان جنوب شرق آسيا وغيرها من التي تشهد أمطاراً موسميَّة تكون في بعض الأحيان أعلى بكثير من معدلاتها السنوية فتحدث فيضانات مدمرة، ومن كان يتابع بعض وسائل الإعلام، لا سيما بعض الفضائيات المغرضة وبعض وسائل “السوشيال ميديا” يستشعر أنَّ العراق مقبلٌ على تسونامي هائل جراء وصول مياه السيول الى الكثير من المناطق ويسبب انهياراً محتملاً لبعض السدود كسد الموصل أو دوكان وغيرها، وكانت بعض المواقع الخبريَّة ووسائل التواصل الاجتماعي تسهم ببث الرعب بين أوساط المواطنين خاصة الذين يتاخمون اكتاف الأنهر، لا سيما نهر دجلة أو قرب السدود المتخمة بالمياه، وبعواجل أخبار تكون أغلبها تهويلاً أو نقلاً غير دقيق عن المتنبئين الجويين، وكانت تُطرح بصيغة “الأكشن” الخبري للحصول على مشاهدات أكثر للموقع، وعادة ما يكون عنوان الخبر مثيراً للانتباه والقلق أيضاً، وإنْ كان فحوى التنبؤ الجوي يشي بتحذير لمخاطر قد تحصل ولكن ليس تأكيداً أو إثباتاً لها خاصة أنَّ موسم الأمطار لا يزال مستمراً ابان نشر هكذا أخبار، لا سيما أنَّ فترة الربيع تختلف عن الشتاء والخريف من ناحية تقلبات الطقس فيها، ما يعطي إيحاءً سايكولوجياً لا إرادي للمواطن المغلوب على أمره بأنَّ خطر الفيضان قادمٌ لا شك فيه وأنَّ السيول الجارفة ستبتلعُ الكثير من المدن والقرى والأراضي الزراعية وتكتسح في طريقها كل شيء وكانت أغلب تلك الأخبار والمنشورات تعطي إشارات ـ دون دليل فني جازم ـ حول عدم صلاحية بعض السدود لاستيعاب الموجات المطرية الهائلة إما لقدمِها أو لضعف استيعابها كون الحالة المطرية اوسع منها.
إنَّ الآثار النفسية المحبِطة والمثبّطة التي تركها الإعلام التهويلي ووسائل “السوشيال ميديا” المنفلتة كانت أشد وطأة من الأخبار التي تتناقلها بعض وكالات الأنباء والفضائيات حول العمليات الإرهابية وما تتركه من آثار تدميريَّة وأشد وطأة من الآثار التي تحدثها الموجات المطريَّة نفسها، وهي موجات اعتاد عليها سكان أرض الرافدين منذ القدم وبعض تلك المواقع راحت تسيّس هذه الحالة ضد بعض دول الجوار باعتبار ان السيول التي تأتي منها هي مسألة كيديَّة مقصودة لإحداث الضرر بالعراق بينما هي حالة طبيعيَّة وموسميَّة لا علاقة لها بالسياسة بتاتاً.
أقول: صحيح إنَّ الحالة المطريَّة وصلت الى حدودٍ غير مسبوقة فقد كان واجباً على الجهات المختصة كوزارة الموارد المائية أنْ توضح حقيقة الأمر للشارع العراقي وسط انتشار وسائل الميديا المغرضة واللامهنية والتي تحمل أجندات خاصة بها، تضاف إليها وسائل السوشيال ميديا غير المنضبطة فقد أعطت الضوء الأخضر لنمو الشائعات المهولة وغير المبررة، وأغلب تلك المواقع والوسائل ما زالت تعمل في مناخ الفوضى الإعلاميَّة الخلاقة مع غياب قانون لتجريم الخروقات المعلوماتية، وكان يجب على تلك الجهات التخفيف من وطأة الأمر وتوضيحه بالقدر الممكن لكي لا تحدث حالة من الفزع بين المواطنين وتؤثر في سايكولوجيتهم المكتظة بالمعاناة المعيشيَّة أساساً.
الصورة التي نقلتها تلك الوسائل عن السيول لم تختلف عن الصورة التي نقلها الإعلام المغرض عن العراق إبان تغوّل الإرهاب فكلاهما وجهان لعملة واحدة.