لا شك أنَّ زيارة شخصيَّة مثل زيارة رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري الى العراق - مع أنها تجسد حالة الانفتاح العربي تجاه العراق-، إلا أنها لا تقف عند حدٍ بعينه فالرجل تاريخٌ يمشي وكنزٌ من التجارب ورغم سنواته الثمانين لكنه يتمتعُ بحيويَّة الشباب وحكمة الشيوخ. ف “عميد البرلمانيين العرب” كما وصفه رئيس البرلمان محمد الحلبوسي جاء إلى بغداد محملاً بتجارب عقود من الزمن فيها آلامٌ وآمالٌ وانتصارات وانتكاسات وحمل عصارة تجاربه ليقدمها بعد غياب لأربعة عقود إلى القادة العراقيين على طبقٍ من ذهب، فخروج العراق من حرب معقدة مع تنظيم داعش الإرهابي رابحاً عجَّل بقدومه ليعرض أمام الساسة أفكاراً ورؤى قد تعينهم على تجاوز العقبات والسير قدماً نحو الخروج من نفق الأزمات.
يدركُ الرئيسُ بري أهمية العراق ومحوريَّة دوره ومكانته الإقليميَّة وضرورة استعادة هذه المكانة التي تراجعت منذ سنوات طويلة والحاجة الملحة لانبثاق موقف مؤمن بهذا الدور المحوري بعيداً عن سياسات المحاور بعد انتهاء الصفحة الأشد قتامة في تاريخه المعاصر ممثلة بمكافحة الإرهاب وطرد تنظيم داعش وفكره الدخيل.
أطلق بري لزواره أو مستقبليه من الساسة رسائل عدة هي أقرب إلى الوصايا والنصائح من شخص لا يرى بينه وبين العراقيين أي حواجز أو حدود ما دام الأمرُ يتعلقُ بمصلحة عربيَّة عليا، فكانت أولى وصاياه ضرورة تطوير العلاقات بين العراق ولبنان في مختلف المجالات عبر تسهيل إقرار التشريعات الخاصة بالاتفاقات الاقتصاديَّة والتجاريَّة وقطاع المصارف وإلغاء تأشيرات الدخول إلى البلدين كون تلك الإجراءات تكفلُ تحقيق مصالح البلدين وتقارب الشعبين وهو ما وجد صدى طيباً لدى رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي الذي لم يتأخر في إعلان استعداد البرلمان العراقي لترجمة هذه الرغبة تشريعات أو عبر التواصل مع الحكومة لتسهيل الإجراءات.
وصيته الثانية، الوحدة الشيعيَّة – السنيَّة، فليس مطلوباً الاندماج التام كون “اختلاف أمتي رحمة” كما قال صلى الله عليه وسلم، فالمطلوبُ كما يؤمن الرئيس نبيه بري “وحدة شيعيَّة - سنيَّة”، فالاختلاف وهميٌ ويستشهدُ بقول له أمام الآلاف من أنصاره في لبنان في سنوات ماضية “أنا شيعي الهوية سني الهوى” فغلقُ أبواب الفتن المذهبيَّة هو المطلوب وهو ما يتطلبُ الانتباه له وقطع الطريق أمام المروجين لهذه الفتن أو المراهنين على إشعالها في المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة الرخوة، فالوحدة المجتمعيَّة مطلوبة في كل دولة عربية أو إسلاميَّة.
وصيته الثالثة، هي الحوار فهو كلمة السر والسحر الذي لا بدَّ أنْ يسودَ لتحقيق التقارب بين الفرقاء لحل كل المشاكل التي تعترضُ النهوض بواقع الدول، فهو خيارٌ وحيدٌ أو الأوحدُ لحل الأزمات وبدونه ستبقى الفوضى والنزاعات والانقسامات سائدة، فكانت لقاءات الرجل ذو التاريخ السياسي الحافل بالحوار وطاولاته التي نتج عنها اتفاقا الطائف والدوحة، مع الرئاسات العراقيَّة الثلاث وأغلب القادة السياسيين تندرجُ في إطار التدخل الإيجابي لجمع الفرقاء والتقاء المتخاصمين أو المنافسين سياسياً وجلوسهم على طاولة حوار لحل المشاكل من أجل توفير احتياجات الشعب.
وطرح رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري نصيحته الرابعة خلف الكواليس والأبواب المغلقة، فلا بدَّ من عرض مبادرات لحل أزمة الوزارات الشاغرة في الحكومة العراقيَّة، فالرجل القادم من لبنان التي شهدت أيضاً ولادة عسيرة لحكومتها، انبرى ليمارس دوره بعد أنْ استمع لهموم كثيرة خلال لقائه المرجعيات السياسيَّة في بغداد أو الروحيَّة في النجف الأشرف وأدرك حجم الخلاف فاستثمر ما يتمتع به من قبول سياسي بين الأحزاب والكتل السياسية ليطرح الحلول الممكنة ويقرب المسافات مع أنه قال بصريح العبارة أمام قيادات سياسية عراقية: “أنا لا أعطي دروساً فأنتم أعطيتم دروساً للعالم من أيام مسلة حمورابي والعراق هو مرجعيتنا” لكن رمي حجر في المياه الراكدة أفضل من النظر إليها، ومع أنَّ مبادرة محددة لم ترشح عن اللقاءات لكنَّ الثمار السياسيَّة لتلك التحركات قد تنضج في غضون الأسابيع القليلة المقبلة.
أما وصية الرئيس بري الخامسة فكانت فلسطين فهي القبلة السياسيَّة للعرب والمسلمين وإنَّ التخلي عنها معناه انهيارٌ أخلاقيٌ وقيميٌ وسياسيٌ وحتى دينيٌ فدعم القضية الفلسطينيَّة لا بدَّ أنْ يغرس في النفوس وأنْ تبقى أولوية لدى العرب عموماً حتى تلتف الشعوب على دعم قضية تنزف منذ 1948 فلبنان والعراق يقدمان كل ما من شأنه من مواقف سياسية او معنوية وحتى مادية لبقاء جذوة النضال الفلسطيني مشتعلة حتى عودة الحقوق المسلوبة، ويقول بري: “عندما كان شاه إيران مع إسرائيل كنا مع جمال عبد الناصر لأنه مع فلسطين” وهي دلالة على أنَّ المواقف والتحالفات تعتمد على بوصلة فلسطين الجامعة لكل العرب وعندما تشظى العرب تاهت القضيَّة وتحولت إلى ملف تتلاعب به الإرادة والإدارة الأميركيَّة لصالح حليفتها إسرائيل.
ومما تقدم فإنَّ العراق ومن خلفه دول المنطقة يمرُّ بظرفٍ دقيقٍ وحساسٍ ومنعطفات خطيرة، الأمرُ الذي يجعل من الضروري الاستفادة من نصائح رجل بخبرة ودور نبيه بري وألا تمرَّ مرور الكرام.