أُميَّةُ الجامعات بين الكسل والجهل

ثقافة 2023/02/08
...

موج يوسف 

كتب أستاذُ التاريخ في جامعة كاليفورنيا (راسل جاكوبي) كتاباً بعنوان (آخر المثقفين)، ورأى أنه لم يعد في أميركا أيّ مثقفين، أي مفكرين معروفين يتوجّهون بآرائهم إلى الرأي العام وإلى جمهور واسع من المتعلّمين، ووضع اللائمة على الجامعة خصوصاً، واتهمها بقتل المثقفين. إنَّ لهذا الرأي خطورةً تكمن في التساؤلات التالية: لماذا الجامعة بالذات تقتل الفكر؟ أليست هي النبع الأول لجريان نهر الأفكار؟ وتساؤلات أخرى تستفزني لا سيّما أنني زُرعت فيها وأصبحت أنمو. وهذا النماء الممتلئ بالتجارب بين كوني طالبة وتدريسيَّة يجعلني أميل إلى رأي جاكوبي لأسباب عدّة منها: لو أمعنا النظر في صنّاع الفكر العرب كالجاحظ، وابن رشد، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وابن سينا، وابن حزم الأندلسي وغيرهم من المفكرين الذين ما زلنا نعيش على فكرهم حتى وإن حاولنا الخروج عنه، سوف نلحظ أنهم لم ينشؤوا في مؤسسة ترعى أفكارهم، ولا سلطة تقرّب النار لحطبهم، بل كان العكس إنهاـ السلطةـ لم ترعهم وكانت بالضد من الفكر الحر. وفي المناخ نفسه بالعصر الحديث نجد أنَّ المؤسسة الجامعية كانت الأداة القمعية الأولى لردع المفكرين والمثقفين وهذا ما حدث للعديد من الأساتذة كعميد الأدب طه حسين في بحثه ( في الشعر الجاهلي) والذي قال بمقدمته: وأكاد أثق بأنَّ فريقاً سيلقونه ساخطين عليه، وبأنَّ فريقاً سيزورّون عنه ازوراراً، ولكني على سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع البحث. والكلّ يعلم ما جرى لطه حسين من تهم، واعتراضات، لأنه تمرّد على المؤسسات. كما لا يخفى على القارئ أطروحة الدكتوراه للمفكر السوري أدونيس بعنوان (الثابت والمتحول) التي تعدّ ثورةً على الأكاديمية وما أثاره من جدل، في الأوساط العربية ونال شتى التهم من بينها الإلحاد، وهذه الأخيرة لم يسلم منها المفكر المصري نصر حامد أبو زيد عندما قدم بحثاً للترقية بعنوان (نقد الخطاب الديني) في تسعينيات القرن الماضي للحصول على الأستاذية، لكنّه حُرم منها عندما قدمت اللجان العلمية تقريراً ترى كفره بالإنتاج العلمي ـ ومن يقرأ مقدمة كتبه سيجد التقرير مفرقاًـ ولم يقف الأمر عند حدود الكفر بل أٌذيع الخبر في إحدى صلوات الجمع بالأزهر الشريف؛ ممّا جعل المحكمة في مصر تصدر قرارها بفصله عن زوجته بتهمة أنه ملحد ولا أعلم ما علاقة الدين بالفكر؟ ولا أنوي الغوص في هذه الجدلية؛ لأنَّ الجميلة النائمةـ الجامعةـ كما وصفها المفكر والدكتور عبدالله الغذامي، الذي لم يدخل فكره الحر إلى المؤسسة الأكاديمية، فكتبه نظرية النقد الثقافي، والمرأة واللغة، والخطيئة والتكفير والعقل المؤمن والعقل الملحد، كانت خارج مظلة الجميلة النائمة، ومع هذا لم تسلم أفكاره من المؤسسة الأكاديمية وفق ما ذكره في حوار بيننا عندما سألته عن كتبه في الفكر الحر، وعلاقتها في الجامعة؟ قال: إنَّ المؤسسة قاومت كتبي: المرأة واللغة، والخطيئة والتكفير، والنقد الثقافي والكتب الأخرى التي سماها (بالبحث الحر) وقال أيضاً: أما بحوثي لأجل الترقيات في الجامعة، فهي تختلف عمّا كتبته في الفكر الحر، بل لم أخرجها إلى الفضاء الثقافي، فأنا لا أكتب من أجل المؤسسة وإنما أكتب للثقافة نفسها ولا تقيدني شروط الجامعة. فالدكتور الغذامي ابن المؤسسة الجامعية ويعلم ما تخفيه وراء أسوارها من زنزانات تخنقُ الباحث في تخصص ضيق، وفق شروط تسمّى قانونية.

إنَّ ما ذكرته في السابق ليس إلّا بعض الإضاءات على الجانب المعتم في الأكاديميات، وهو ما جعلني أُمرر تساؤلاتي على جسد الجامعة الكسول، فما فائدة الكم الكبير من أساتذة وطلاب، وباحثين، وما زالت رئة الفكر مخنوقة؟ وما قيمة الدرجات العلمية التي لا يرى صاحبها الراحةَ إلا في أحضانها؟ 

 أقول: إنَّ الأستاذ الجامعي يصل إلى الأستاذية ويقدم بحوث الترقية بمجال تخصصه الضيق الذي لا ينتمي إلى المجتمع، كما لا يستطيع ممارسة الأنشطة الاجتماعية والثقافية التي تخدم الواقع، وهذا ما رصدته بشكل شخصي أثناء حضوري ومشاركتي في الأنشطة التي تقام خارج الجامعة فصار مُستهلكاً أكثر مما هو منتج، واقعياً بعيداً عن واقعه. والجانب الثاني الذي يتمثل بالطلبة، وأنا أيضاً منهم - كوني ما زلت طالبة دكتوراه، فوجدت أنهم لا ينتمون إلى الحاضر، ولا الماضي، ولا يمتلكون التفكير المستقبلي، والجامعة مجرد شهادة لأغراض عدة: منها للحصول على وظيفة من أجل العيش، ومن أجل الوجاهة الاجتماعية التي صارت توقّر الجامعي، وقد يقول قائل: أنتِ كذلك لأني أحملُ الصفتين، أقول نعم، وأبدأ بجلد ذاتي قبل الآخرين. لكني واعيةٌ لقضية التأثير في الرأي العام حتى لو كانت بنسبة ضئيلة، فما زلت أكتب مقالات بالنقد تلامس الواقع، كما أنَّ موضوع أطروحتي الذي اخترته وفق نظرية (علم اجتماع الأدب)، ولست بصدد التبجح بذاتي، لكني أسأل لماذا الجامعات العربية التي تعاني تخمة كبيرة بأعداد الطلبة والأساتذة وما زلنا أُمة كلّما جاعت أكلت من نفسها؟ وإن أردنا الفخر بإنجازاتنا عدنا إلى الماضي والتراث، ولماذا تحولنا من شعوب إلى جماهير؟ وأمسينا نعيش بثقافة الإعلام التي تولد وتموت كلّ يوم؟ والجمهور عبارة عن أرقام تزيد من نسب المبيعات والمشاهدات وتستهلك كل ما يبثه الفضاء الافتراضي. فلا بد من إعادة النظر إلى الأكاديمية، وتغيير طرق التدريس والمناهج، وألا ننعزل عن أزمات الواقع، فلا بد للجميلة النائمة أن تصحو.