الاستقراءُ والاستنباطُ في آليّات الإجراء النقديّ

ثقافة 2023/02/08
...

 محمد صابر عبيد

تتشكل النظرية النقدية بمرجعيّاتها وتكويناتها ورؤياتها ومناهجها وجهازها المصطلحيّ من مجموعة من المنطلقات، التي توفر للممارسة النقدية فيما بعد شبكة من الأدوات الصالحة للعمل في ميدان النصّ الأدبيّ وطبقاته، بالمعنى الذي يكون فيه الإجراء النقدي هو المعنى الفعليّ والطبيعيّ للنقد الأدبيّ من دون النظرية، فالنظرية هي حاضنة أدوات تعرَض على الفاعل النقدي كي ينتخب منها ما هو مناسب لعمله النقدي، لأن طريقة استخدام هذه الأدوات في أعلى مستوى هي التي تتيح الفرص المناسبة للنصّ الأدبيّ كي يكشف عن مكنوناته وخصائصه، ولا يمكن للنظرية نفسها أن تؤثر في معالجة النصوص ومقاربتها بما يساعد على فهمها وتحليل عناصر تشكيلها الجماليّة.


تتكشّف داخل فعاليّات الممارسة النقديّة الأدبيّة مجموعة من الآليّات تمثّل جوهر الإجراء النقديّ في ساحة العمل، وتندرج هذه الآليّات في دائرة المنهج النقديّ الذي يفرض إجراءاته انطلاقاً من مرجعيّاته النظريّة التي تُوجِب على الناقد الاستعانة بها، على الرغم من أنّ ثمّة آليّات قد تعلو في سياق أو آخر على الرؤية المنهجيّة النقديّة في ضروراتها الإجرائيّة القارّة، بحيث تمثّل فضاءً نقديّاً إجرائيّاً عامّاً لا بدّ لكلّ ناقد -مهما كانت رؤيته المنهجيّة- أن يدركها وصولاً إلى ممارسة نقديّة سليمة، ومن أبرز آليّات الإجراء النقديّ في هذا المجال هي آليّة "الاستقراء" بوصفها آليّة جوهريّة نقديّة كاملة الرؤية، في مواجهة آليّة الاستنباط آليّة نقديّة تصاعديّة تستهدف الانتقال من منطقة إلى أخرى مسلكيّاً داخل رؤية تركيبيّة معاكِسة.

ثمّة آليّتان تعملان في ميدان الإجراء النقديّ بوصفهما أداتَين حرَّتَين لمنهج نقديّ نصيّ يقوم على فحص دقيق جداً لطبقات النصّ الأدبيّ، وهما آليّة الاستقراء وآليّة الاستنباط تعمل أحداهما عكس الأخرى ضمن رؤية نقديّة مشتركة تحرث أرض النصّ بطريقة اشتباكيّة متضادّة، ولا بدّ من وعي حدود اشتغال كلّ آليّة منهما وحاجة الناقد لاستثمارها في التوغّل الحرّ داخل أعماق النصّ، وتحصيل ما يمكن تحصيله في جولة الاستقراء ثمّ جولة الاستنباط لأجل تحقيق أعلى درجةِ تقاربٍ وتفاعلٍ مع حساسيّة النص، وتمثّل مقولته وأطروحته المركزيّة واستثمارها في تحليل عناصر التشكيل وتأويلها على النحو الذي يستجيب لمقوّمات المنهج ورؤيته.

توصف آليّة الاستقراء بأنّها آليّة نقديّة تبدأ في حراك عمليّاتها النقديّة الاستقرائيّة من الأدنى إلى الأعلى، ومن الخاصّ إلى العام، ومن الجزئيّ إلى الكليّ، ومن الأقرب إلى الأبعد، في سبيل التحرّك الحثيث بصورة محوريّة تكتسب في كلّ حركة منها طاقة ومعرفة ووسيلة؛ تساعدها على المكوث أولاً والانتقال نحو حركة أخرى لاحقة ثانياً، ومن ثمّ تحمل في كلّ حركة حمولة أكبر وأوسع وأعمق وأكثف تمكّنها من تسهيل عمليّة الفهم والاستيعاب والتمثّل والإدراك، على وفق منظور استقرائيّ يهيئ العقل النقديّ للوصول إلى المناطق الرخوة في خريطة النصّ للنفاذ إليها والهيمنة عليها، وتسخيرها لصالح تقدّم محسوب وممنهج ومنطقيّ ومنتِج بطاقةٍ فعّالةٍ ومستمرّةٍ بثقة وأصالة وقوّة، نحو السعي إلى إرغام النصّ على التنازل عن مناطق أخرى مجاورة لصالح الفاعل الاستقرائيّ وهو يجتهد في اغتنام مناطق جديدة في كلّ جولة.

يستعين الاستقراء بالخبرة القرائيّة ليبدأ من أصغر وحدة في الأسفل صعوداً إلى أكبر وحدة في الأعلى، لأنّ هذا المصدر يحمل معنى القصديّة في درجة عالية ومتحرّكة من درجاتها، فالقراءة في معناها النقديّ المتداوَل تمثّل طبقة عالية ومهمّة من طبقات الإجراء النقديّ والممارسة النقديّة، وتعدّ عملية الاستقراء داخل هذه المنظومة الفعل الأكثر قصديّة فيها حين تسعى إلى التدخّل في جوهر وحدات العمل الأدبيّ، والاجتهاد في تفكيكه على نحو يساعد في فهمه التعرّف إلى طبيعة حراكه الإبداعيّ داخل فضاء النصّ، وتمثّل تجلّياته، وتلمّس حساسيّاته.

أمّا آليّة الاستنباطُ فهي آليّة معاكسة لآليّة الاستقراء من حيث طريقة العمل على النصوص والظواهر، إذ هي تبدأ من العام إلى الخاصّ ومن الكليّ إلى الجزئيّ ومن القريب إلى البعيد، ضمن رؤية نقديّة حاوية ومحيطة تعاين النصّ الأدبيّ معاينة كليّة تحاول فيها استباط أسس العمل وسياسته ونُظُم تأليفه، كي يتمكّن من فهم ستراتيجيته التي على أساسها يستطيع المستنبِط تفكيك خصوصيّة النصّ وفتح مغاليقه وتعويم جماليّاته.

يحتاج الاستنباط إلى مادة كاملة متكاملة كي يتمكّن الفاعل المُستنبِط من تفكيكها عن طريق الإحاطة الكليّة بمجمل التكوين النصيّ، والوصول إلى مكوّناتها والتصرّف بإمكاناتها على وفق رؤية توفّر قدراً كبيراً من الطمأنينة، وعمليّة التفكيك النصيّ الاستنباطيّة تقتضي فعاليّةَ حفرٍ داخل الكيان النصيّ بما تسمح له الفراغات الظاهرة بين العناصر، وهذه الفعاليّة من دون أدنى شكّ تحتاج إلى التنقّل من طبقة إلى طبقة أخرى في سلسلة حفريّة لا تتوقّف، وتحمل في كلّ منجز حفريّ ما تتحصّل عليه من معرفة وخبرة وكشف يسهّل لها الانتقال إلى طبقة جديدة في سلّم الحفر، وهكذا تتنقّل الآليّة من أبعد دائرة في المحيط النصيّ حتّى تبلغ النواة النصيّة، وتكون بذلك قد استوفت فعاليّة البحث النقديّ على نحو كامل وشامل وحيويّ؛ بالصورة الهيكليّة التي ترسم مسار الإجراء النقديّ

المتكامل.