عقولنا المهاجرة

آراء 2023/02/09
...

 ميادة سفر


شهدت السنوات الأخيرة زيادة كبيرة في أعداد المهاجرين من منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، وعلى الرغم من أن نسبة كبيرة من مهاجري العقد الأخير ليسوا مهاجرين بالمعنى الحرفي للكلمة، إنما هم لاجئون هربوا من حروب وأزمات إنسانية واقتصادية لحقت بلدانهم، إلا أن الأثر السلبي الذي تتركه تلك الهجرات لا يفرق بين لاجئ ومهاجر، خاصة في ما يتعلق بهجرة العقول والكفاءات التي تذهب محملة بخبراتها وعلومها التي اكتسبتها، تاركة فراغاً كبيراً يظهر بشكل واضح في الجانب الاقتصادي، الأمر الذي يسبب عائقاً أمام النمو وإعادة البناء، لا سيما في الدول التي شهدت حروباً ودماراً تحتاج معهما إلى آلاف الأيدي العاملة للمساعدة في إعادة إعمارها. تشير الدراسات إلى أنّ معظم الهجرات التي تتم من قبل أصحاب الكفاءات تحدث من البلدان النامية إلى الدول المتطورة مثل أوروبا وأميركا، فضلاً عن أنّ ما نسبته 54 % من الطلبة العرب لا يعودون إلى دولهم بعد انتهائهم من التحصيل العلمي، بما فيهم طلبة الإيفاد الذين تكفلت حكوماتهم بمصاريف دراستهم على أمل عودتهم للاستفادة منهم، ويشكل أصحاب الشهادات العليا والخبراء نسبة عالية من المشتغلين العرب في الدول المتقدمة.

كثيرة هي الأسباب التي تدفع الأفراد لترك أوطانهم والهجرة إلى دول أخرى، إذا تجاوزنا الحروب والاقتتال الذي زاد من نسبة المهاجرين، فإن الظروف الاقتصادية السيئة التي تعاني منها بلادنا تشكل الدافع الأبرز وراء سعي الكثيرين إلى طرق أبواب الدول المتطورة، فضلا عن ضعف مؤسسات الدولة وتفشي الفساد والفقر، إضافة إلى قلة العائد المادي لمختلف التخصصات، ولجوء الكثير من الحكومات إلى الاعتماد على الخبرات الفنية والتقنية الغربية على حساب الكفاءات الوطنية، على ما يقول المثل الشعبي "كل شي فرنجي برنجي" ومعناه أن كل ما يأتي من الغرب أفضل وأكثر جودة، دون أن تفكر تلك الحكومات لماذا يبدع مواطنوها في الخارج؟

أظهرت دراسة لجامعة الدول العربية أنّ نسبة البطالة في الشرق الأوسط كانت سبباً في بحث حوالي 70 % من خريجي الجامعات عن فرص عمل خارج دولهم، وتعتبر سوريا والعراق ولبنان وفلسطين والأردن من أكثر الدول العربية تضرراً من هجرة الكفاءات إلى الدول المتقدمة، وقد لعبت الأحداث والفوضى والحروب دوراً أساسياً في ارتفاع نسب البطالة والهجرة في آن معاً. لا شكّ أنّ لهجرة العقول والكفاءات آثرها البالغ على دول المنشأ، فهي تؤدي إلى خسارة كبيرة في القوة العاملة الماهرة، في جميع المجالات لاسيما الصناعة والطب وغيرها من مجالات استراتيجية أخرى سوف تحتاجها الدول لإعادة إعمار ما دمرته الحروب، مما يؤثر سلباً على النمو الاقتصادي للبلاد، وقد شكلت هجرة الكوادر الطبية ضغطاً مضافاً على القطاع الصحي، "عانت سوريا في السنوات الأخيرة في قلة أعداد أطباء التخدير على سبيل المثال"، الأمر الذي فاقم من الأزمة الصحية التي تعاني منها في ظل الحصار المفروض عليها، ويشكل الأطباء العرب وخاصة سوريا والعراق نسبة كبيرة من العاملين في الدول الأوروبية.

إن الوقت لم يعد في صالح الحكومات العربية التي فرطت بالكثير من أبنائها، ودفعتهم إلى الهجرة وخسرت بذلك ثروة كبيرة من أهم الثروات التي يمكن لدولة امتلاكها، وعنصراً أساسياً في عمليات البناء والنمو، ولابدّ لها من اتخاذ الخطوات الكفيلة للحد من هجرة تلك الكفاءات وتفاديها، عبر إعطائهم أسباباً للبقاء وجعلهم أولوية في سياساتها وقراراتها، بدل منحهم جواز عبور ومبرراً وحافزاً على الرحيل.

تخلو بلادنا اليوم من الكثير من مفكريها وعلمائها وأطبائها ومهندسيها وفنانيها، الذين وجدوا في بلاد أخرى من قدّرهم ومنحنهم مساحة كبيرة من الاحترام وحرية العمل لم يجدوها من بلدهم الأم، ويزداد الحال سوءاً حين يملأ الفراغ الذي تركوه بأصحاب النقل لا العقل، بعقول تؤمن بالخرافات، أناس يقدسون الماضي بدل المستقبل، ففي الوقت الذي تتبارى فيه الأمم الأخرى على انتاج العلوم وتطوير الأفكار واحترام العقول ومكافأة علمائها ومبدعيها، تنشغل بلادنا بفتاوى التكفير والتحليل والتحريم، فهل نرجو خيراً من بلاد منحت من لا يستحقون لقب "علماء"، بينما علماؤها الحقيقيون يبدعون في الخارج؟