«خطبة الأشباح» بمنظور الأسلوبيَّة السيميائيَّة

ثقافة 2023/02/09
...

  د. نادية هناوي 

اتخذ التفكير الأسلوبي أشكالا مختلفة من التمثلات الحداثية، فهناك الأسلوبيّة الاحصائيّة وأسلوبيّة الانزياح والأسلوبيّة السياقيّة وأسلوبيّة السجلات. وإذا كانت البلاغة بمعياريتها، والأسلوبيّة بصورها ونصيتها، قد أشاحت بوجهها عن المتلقي ودوره الإنتاجي في التحليل وتلمس مواطن الجمال؛ فإن الأسلوبيّة السيميائيَّة جاءت كنظرية في التحليل البلاغي تعيد للمتلقي دوره، واجترحها الفرنسي هنريش بليت في كتابه الموسوم (البلاغة والأسلوبيّة نحو نموذج سيميائي لتحليل النص) 1999 وتقوم الأسلوبيّة السيميائيّة عنده على الصورة البلاغيّة كوحدة لسانيّة تتكون من انزياحات تنتج عنها سمات سيميائيّة، وتتنوع هذه الانزياحات؛ فهي أما أن تكون في التركيب أو في التداول أو في الدلالة، وجميعها تتجلى واضحة في خطب الإمام علي، ومنها خطبة (الأشباح). ويقال في سبب انشائها أن أحدهم سأل الإمام أن يصف الله حتى كأنه يراه عيانا، فغضب عليه السلام وقال هذه الخطبة.

وهي تتألف من مقدمة تنبّه المستمع الى ضرورة حمد الله تعالى وتعداد صفاته ومواضع قدرته عزَّ وجلَّ على عباده، فهو المنّان والأول، والآخر، والرادع، والجواد. وهو ما يجعل القارئ أو المستمع منتبها متقبلا (الحمد لله الذي لا يضره المنع والجمود ولا يكديه الإعطاء والجود، إذ كلُّ معطٍ منتقصٌ سواه، وكلّ مانع مذمومٌ ما خلاه، وهو المنّان بفوائد النعم، وعوائد المزيد والقسم، عياله الخلائق، ضمن أرزاقهم، وقدر أقواتهم، ونهج سبيل الراغبين إليه والطالبين ما لديه وليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل، الأول الذي لم يكن له قبل، فيكون شيءٌ قبله، والآخر الذي ليس له بعد، فيكون شيءٌ بعده، والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله، أو تدركه، ما اختلف عليه دهرٌ فيختلف منه الحال، ولا كان في مكان) 

ومن بعد المقدمة يأتي التوجيه والتنبيه على مكامن علم الله تعالى وكيف أن معرفته وسعت كلّ شيء ( ولو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال وضحكت عنه أصداف البحار من فلز اللجين والعقيان ونثارة الدر وحصيد المرجان ما اثر ذلك في جوده ولا أنفد سعة ما عنده ولكان عنده من ذخائر الأنعام ما لا تنفده مطالب الأنام  لأنّه الجواد الذي لا يغيضه سؤال السائلين ولا يبخله إلحاح الملحّين..) ثم يأتي الاحتجاج وقد شغل مواضع كثيرة وفيها جميعها برهنة على قدرة الله سبحانه وتعالى ( قدَّر ما خلق فاحكم تقديره ودبَّره فألطف تدبيره ..وكيف وإنما صدرت الأمور عن مشيئته المنشئ أصناف الأشياء بلا روية فكرٍ آل إليها ولا قريحة غريزة اضمر عليها ولا تجربة أفادها من حوادث الدهور ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور فتمَّ خلقه بأمره وأذعن لطاعته وأجاب إلى دعوته..) 

وتنتهي الخطبة بدعاء الله تعالى والتوسّل إليه لكسب رضاه ورحمته فهو سبحانه خير متأمّل وهو أهل المناجاة وخير مسؤول. وقد جاءتْ بلسان المتكلّم الخاشع الذليل الموحد الطالب للرضا والعفو ( اللهم أنت أهل الوصف الجميل والتعداد الكثير، إن تؤمل فخيرُ مؤملٍ وان ترجَ فأكرمُ مرجوٍّ، اللهم وقد بسطتَ لِيَ ما لا أمدح به غيرك... فهب لي في هذا المقام رضاك وإغننا عن مدِّ الأيدي إلى سواك إنّك على كلِّ شيءٍ قدير). 

وتتمثل انزياحات خطبة (الأشباح) على وفق نظرية الأسلوبيّة السيميائيّة في ما يأتي:

أولا/ الانزياح في التركيب ويتحقق بالخروج عن الأنموذج النحوي، وتتولِّد عن ذلك صور لسانيّة وبمستويات مختلفة في خطبة الأشباح، ومنها مستوى تناوب الضمائر فالخطبة تبتدئ بضمير الغياب ثم ضمير الخطاب ثم الغائب المؤنث وتختم بمناجاة الذات الإلهيَّة (إنّك على كلِّ شيءٍ قدير) وهناك مستوى المطابقة والالتفات والإفراد والتثنية كإفراد خلق الملائكة والأرض والسماء وآدم، والتثنية بالشمس والقمر (فأجراهما في مناقل مجراهما وقدّر سيرهما في مدارج درجهما)، والليل والنهار (ليميز بين الليل والنهار بهما... ولم ترتجلهم عقب الليالي والأيّام)، وهناك مستوى الصور التي انزاحت عن تركيبها النحوي في الخطبة وأخذت بعدا تركيبيا سيميائيا أو صورة سميوتركيبية فيها الموجه النوعي للانزياح يتكون من سلسلة لسانيّة للغة الطبيعيّة بالزيادة والنقصان أو بالتكرار أو بالتضاد (الذي لا يغره المنع والجمود ولا يكديه الإعطاء والجود) و (الأول الذي لم يكن له قبل) و (الآخر الذي ليس له بعد) و (ونهج سبيل الراغبين إليه والطالبين ما لديه) و (وليس بما سُئل بأجود منه بما لم يُسأل) و (وأرانا من ملكوت قدرته وعجائب ما نطقت به آثار حكمته).

ثانيا/ الانزياح في الدلالة ويكون بالتعويض والإبدال مجازا أو استعارة أو كناية وهو ما يولّد صورا مجازية هي عبارة عن مركبات لفظية ناتجة عن انزياح نحوي بين الفعل والفاعل، أو المفعول أو الصفة أو الموصوف أو المضاف أو المضاف إليه. ومن المجازات في خطبة الأشباح ما يتخذ فيها الانزياح الدلالي صيغة الكناية وجاءت بألفاظ ذات فصاحة بالغة تقوي عامل الاحتجاج والتوصيل (قادحة الإحن/ عرانين أنوفها/ مسترقي السمع/ شموخ أنفه). واما الصور التي اتخذ فيها الانزياح الدلالي صيغة الاستعارة فجاءت بصفات مجازية ذات طابع مرجعي وبعلاقات سياقية (ما اختلف عليه دهر/ ما تنفست عنه معادن الجبال/ ضحكت عنه أصداف البحار/ ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته/ حمل شواهق الجبال الشمخ البذخ على أكتافها.)

ثالثا/ الانزياح في التداول ويحضر هذا النوع من الانزياح كأنموذج لمرجعيات الواقع ليولد صورا تداولية ناتجة عن كفاءة تواصلية. وتتحقق هذه الكفاءة حين يكون للانزياح مقام تواصلي، وعليه تهيمن الوظيفة الاقناعية. فقوله عليه السلام: (ضمن أرزاقهم) تحتمل قراءات عدة، منها مرجعية أي انه سبحانه لأنه خلقهم فلذلك هو يعرف ما قدر لهم من الحياة ونصيبهم فيها وكفاءة التلقي تقتضي سد فراغ تكملة الجملة ضمن أرزاقهم في هذه الحياة وليس في الآخرة لان الحياة هي دار المتاع والعمل، والآخرة دار القرار والحساب، وقوله (قدَّر أقواتهم) أي أنه سبحانه فصّل معنى الأرزاق آنفا فخصصها في المعاش وحدّدها بما يضمن البقاء وهي الأقوات فانتفت بقيت النعم من القصد كنعمة الأبناء أو الصحة أو غيرها من النعم والحذف فيها (في الحياة الدنيا) لأنَّ المتلقي سيعرف ذلك وسيملئ الفجوة هنا. 

وبناءً على وجهة النظر التداوليّة هذه، تتوزع مقاصد (خطبة الأشباح) بين أربعة مقاصد هي: مقصد إبلاغي إقناعي (فانظر أيّها السائل/ فما دلّك القرآن عليه فائتم به/ واعلم أنّ الراسخين في العلم) ومقصد إخباري (فاهبطه بعد التوبة ليعمر أرضه بنسله وليقيم الحجة على عباده/ لم تتناه في العقول فتكون في مهب فكرها مكيّفا ولا في روايات خواطرها فتكون محدودا مصرّفا/ وكأنّه لم يسمع تبرؤ التابعين من المتبوعين إذ يقولون (تالله إن كُنّا لفي ضلالٍ مبين، إذ نسويكم بربِّ العالمين)، ومقصد شعري جمالي (إن تؤمل فخير مؤمل وإن ترجَ فأكرم مرجوِّ/ اللهم أنت أهل الوصف الجميل انك أنت الله/ اللهم وقد بسطت لي فيما لا أمدح به غيرك ولا أثني به على..) ومقصد عاطفي (إن من شبههك بتباين أعضاء خلقك.. لم يعقد غيب ضميره على معرفتك/ كذب العادلون بك إذ شبهوك بأصنامهم ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم/ العادل بك كافر بما تنزلت به محكمات آياتك). وإذ يفترض الأثر التداولي والتواصلي وجود هذه الأنواع من المقصديات فإنّه يقر بتعدد القراءات أيضا من ناحيتين: الاولى أن أغلب الصور التداوليّة أوجدها الاحتجاج والاستفهام باعتباره شبه سؤال والحيرة باعتبارها شبه شك. والثانية أن مقدمة الخطبة وخاتمتها تضمنت النسبة الأعظم من الصور التداوليّة في إطار الإقناع، والاحتجاج، والتوسّل، والمناجاة.

وهذا التركيز على التواصل وجعل المتلقي في المقام الأول من الأنموذج البلاغي ليكون النصُّ تابعاً لمقصديّة الأثر في المتلقي، صار بمثابة أنموذج لساني، اعتمده الادباء العرب القدماء واهتمَّ به البلاغيون والنقاد. فأولوا المتلقي اهتماما فمثلا يفتتح ابن طباطبا كتابه (عيار الشعر) بمخاطبة المتلقي قائلا: «فهمت حاطك الله ما سألت أن أصفه لك من علم الشعر والسبب الذي به إلى نظمه وتقريب ذلك على فهمك والتاني لتيسير ما عسر منه عليك وأنا مبين ما سألت عنه وفاتح ما يستغلق عليك منه». ولا ينسى عبد القاهر الجرجاني المتلقي، بل جعله نصب عينيه وهو يخاطبه «وجملة ما أردت أن أبينه لك: انه لا بدَّ لكل كلام تستحسنه ولفظ تستجيده من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلة معقولة وان يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل»، والخطيب القزويني يجعل المتلقي قبالته ناصحا له وموجها «واعلم أنّه ليس إذا لم يكن معرفة الكل وجب ترك النظر في الكل ولان تعرف لعلة في بعض الصور فتجعله شاهدا في غيره أحرى من أن تسد باب المعرفة على نفسك وتعودها الكسل والهوينا». 

وكان حازم القرطاجني قد ادخل المتلقي طرفا في الخطاب البلاغي فقال مخاطبا المتلقي شارحا أحوال القول البلاغي: «فإذا أردت أن تقارن بين المعاني وتجعل بعضها بإزاء بعض وتناظر بينها فانظر مأخذا يمكنك معه أن تكوّن المعنى الواحد وتوقعه في حيزين فيكون له في كليهما فائدة فتناظر بين موقع المعنى في هذا الحيز وموقعه في الحيز

الآخر».