شعريَّة رامبو في مرايا «سوزان برنار»

ثقافة 2023/02/12
...

 ريسان الخزعلي

( 1 )

شغلَ الشاعر الفرنسي رامبو الأوساط  الثقافيّة والأدبيّة منها تحديداً أينما كانت بالجديد - غير المألوف - من الشعرالفرنسي الحديث رغم صغر عمره الحياتي والشعري على السواء؛ إذ جاء هذا الشعر بمواصفات فنيّة/ جماليّة مغايرة للشعر الفرنسي وغير الفرنسي على مستويات عدة: صياغة البناء، تشكيل الصورة، اللغة الشعرية الجديدة، غرابة الموضوعات، الإيحاءات الرمزية، الإشارات النفسيّة، المرجعيات التاريخيّة، المخياليّة العالية، الخروج عن النظام العروضي باتجاه شكل جديد – قصيدة نثر، التماس مع الفكر المسيحي ومن ثم التمرّد عليه، وغيرها من الالتماعات الفنيّة.

 وقد لفتت أعماله الشعريّة (الإشراقات، فصل في الجحيم، المركب السكران، وغيرها) أنظار الشعراء والنقّاد في فرنسا، والعالم بعد انتشارها مترجمة. ونظراً لصغر عُمْر الشاعر فقد جرى التشكيك بأن تكون هذه الأعمال من ابتكاره وتوليده الشعري، وقد تمت إحالتها إلى مؤثرات ومرجعيات عدّة سابقة على نشأته وتكوينه الشعري، وقد عزز هذا التشكيك تَرْكُ الشاعر كتابة الشعر مبكراً وانشغاله بالأعمال التجاريّة. وهكذا صدرت بعض المقالات والكُتب بعناوين ومضامين تُشير إلى طبيعة شيوع  شعريّة رامبو بأنّها خليط من الحقيقة والأسطورة، إلى أن صدر كتاب (قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن) تأليف (سوزان برنار) عام 1958 ليكشف عن رامبو وشاعريّة رامبو؛ والكتاب بالأصل رسالة دكتوراه – بحث أكاديمي دقيق حول قصيدة النثر في فرنسا، نشأة ومرجعيات وشعراء. وقد تلقّف شعراء مجلة (شعر) اللبنانية وبخاصة أدونيس وأنسي الحاج مضامين هذا الكتاب وتشاغلا بالتبشير والتنظير لقصيدة نثر عربية.

( 2 )

كتاب (سوزان برنار)، صدر مترجماً إلى العربية بجزأين، ترجمة راوية صادق، مراجعة وتقديم رفعت سلام – منشورات شرقيات – 1998.  وللتأكيد فإنَّ هذا الكتاب قد قام بترجمته قبل هذه الترجمة الأستاذ  زهير مغامس وصدر ضمن منشورات دار المأمون العراقية؛ إلّا أن ترجمة الأخير لم تتضمن سوى عُشْرِ محتويات كتاب (برنار) حسب ما جاء في مقدمة الجزء الأول بقلم رفعت سلام.

وفي هذا الجزء جرى البحث تفصيلاً في موضوع قصيدة النثر الفرنسية، مرجعياتها وشعرائها  اللامعين، على النحو الآتي:

أ – بودلير والغنائية الحديثة.

ب – رامبو وخلق لغة شعرية جديدة.

ج  - لوتريامون والشعر الجنوني.

د – مالارميه وميتافيزيقا اللغة.

إنَّ الذي تجدر الإشارة اليه في هذا العرض السريع، تشخيصات وتوصيفات (برنار) لبدايات شِعْريّة/ رامبو/ وخلاصة ما آلت إليه تجربته الشعريّة. 

تقول (برنار) عن بدايات رامبو وبعض ماتلا تلك البدايات في أكثر من فقرة في الفصول المخصصة عن تجربته:

أ - لم يعد من الممكن إنكار أنّ المرحلة الشعريّة الأولى لرامبو، المرحلة “النظميّة”، كانت مرحلة سرقات أدبية: انتحال لجوتييه وهوجو وجلاتيني وموسيه.. إنَّ “سارق النار” لهوَ – في البدء – سارق عبارات،  معارضات قصديّة إلى هذا الحد أو ذاك، وساحرة إلى هذا الحد أو ذاك، يبدو فيها رامبو، بقدر ما يتمرّن، بقدر ما يُقدّم – في الوقت نفسه – نوعاً من “النسخة السلبيّة” للشعر البارناسي، ليجعل من هذا الشعر المنتظم – الذي كرّسه البارناسيون للجمال التشكيلي، والفن الشكلي - صالحاً للسباب والفُحش والتجديف.

ب – جمل متكسّرة، مبتورة، وغير مكتملة أحياناً، أسلوب غير متماسك، مليء بالتصدّعات والحذوفات والصياغات المألوفة أو المغلوطة.

ج – النصوص التي استلهمها رامبو من إنجيل “سان- جان” ليست قصائد بالمعنى الحَرْفي للكلمة فهي – بالأحرى – أحلام يقظة شعريّة عن  نص إنجيلي.

إنَّ هكذا بدايات وحتى ماتلاها، يمكن النظر إليها على أنها طبيعية، وتحصل لأي شاعر في بدايات نشأته وتكوينه الشعريين، ولا يمكن حصرها بتجربة رامبو فقط حتى وإن كان صغير العمرين: الحياتي والشعري.

أما خُلاصة ما آلت إليه تجربة رامبو الشعريّة وأهميتها، وما أُشيع عنها من أسطرة، فقد وصفتها /برنار/ بعد دراسة معمّقة وبحث طويل، تاريخي وفني، ومقارنات ومقاربات مع آخرين بأنّها تجربة مركزيّة وفريدة، إذ تقول:

أ - يحتل “رامبو” في تاريخ قصيدة النثر مكانة ليست مرموقة فحسب، بل أيضاً مركزيّة وفريدة في نوعها، وذلك لأنّه كان أول من أكّد بقوّة على علاقة الضرورة بين الصيغة الشعريّة الجديدة، وهذا البحث عن المجهول، الذي يجعل من القصيدة الحديثة محاولة ميتافيزيقية أكثر من كونها شكلاً فنيّاً؛ ثم لأنّه أراد – وقد قرن المثال بالقاعدة – أن يصبح هو نفسه “سارق النار”، وأن يُقدّم أنموذجاً لقصيدة النثر، مكتمل الأصالة في المفهوم والتقنية، امتدَّ تأثيره إلى الشعر التالي كلّه.

ب – ثمّة، ولا شك “أسطورة رامبو”: والمفسرون -  من فرط ما أرادوا أن يقرنوا إنتاجه بأنساق موجودة سلفاً، متضاربة تماماً، على أية حال – انتهى بهم الأمر إلى ألّا يروا فيه إلّا ما يأتون هم به؛ لكن ما لا يمكن إنكاره، هو التوجّه الجديد الذي يطبعه “رامبو” على الشعر، وهو – أيضاً – جمال وأهمية اللغة الشعريّة الجديدة التي أبدعها هذا الصبي ذو السبعة عشر عاماً.

( 3 )

إنَّ ما يُقال هنا أو هناك عن رامبو من أنَّ شيوع صيته الشعري وتجربته الفنيّة، ما هو إلا خليط من الأسطورة والحقيقةَ، لم تغفْله (برنار) في بحثها  الموسوعي (قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن). فقد برهنت - ببراعة قراءة، ودراسة أكاديميةٍ استقصائية، ومتابعةٍ تاريخيةٍ وفنيةٍ للشعر الفرنسي منذ بودلير وما قبل بودلير – على وهم مروّجي الأسطورة، وانتصرت إبداعياً لحقيقة شعريّة رامبو.