صراع الآراء في النصوص الأدبيَّة.. هل هو حالة صحيَّة؟

ثقافة 2023/02/18
...

 علي لفتة سعيد


لم ينته الصراع بين الأدباء بشأن هذا النص الأدبي أو ذاك.. حتى لا يكاد نصّ لا يشهد اختلافا في الآراء التي تتحوّل إلى صراع ونقد ونقد مغاير ورفض وتأييد.. وإذا ما أردنا التخصص فإن هذا الصراع يتمحور حول قصيدة النثر والقصة القصيرة جدا والنقد. فالكثير من الآراء سواء من شعراء أو نقاد ينتقدون من يتعاطى مع هذا الجنس الأدبي أو ذاك، رغم أن جميعهم يقرّون أن الجنس الأدبي المنتقص منه له كتابه ومبدعوه لكنهم يتحدثون كما يقولون عن النصّ الهابط الذي كثر منتجوه أو مستخدموه. 


ولذا السؤال يكون.. إذا كان هناك مبدعون في هذه النصوص لماذا يتم التركيز على الهابطة منها؟ وهل يحقّ للمنتقد أن يكون رأيه هو الصحيح الوحيد والآخر خطأ؟ وإذا ما كان كلامهم صحيحًا، ما هي الشروط التي يستندون عليها؟ ثم من هم السبب في تفشّي ظاهرة النصوص الركيكة؟


الفوضى الخلاقة

الناقد العراقي محمد جبير يقول: يبدو لي أن هذا السؤال يضعنا أمام إشكالية نعيشها جميعا وندركها في الوقت ذاته ألا وهي إشكالية تلقي النص، وهي إشكالية تتعلّق بالنص ومتلقّيه في مدى القبول والرفض أو الإقناع وعدمه. ويضيف أن "الحال يبقي الإشكالية قائمة ولا يمكن حسمها سلبا أو إيجابًا"، ويشير إلى أنه إذا ما أردنا أن نرصد هذه الظاهرة في المجتمع الثقافي فإنّ القيم والمفاهيم والأعراف العلمية والأكاديمية لا تنطبق عليها لأنها خارج تلك السياقات، لأن الكثير من الأحكام التي تطلق ويتم تداولها في المجتمع الثقافي لا تنتج عن قراءة النصوص الإبداعية قراءة واعية وإنما تتم عن طريق الدوال الاجتماعي، أو نقل سماعي من شخص إلى آخر. ويؤكد أنها "تطلق بوصفها أحكاما، وهذا هو السائد العام الذي يظلم الكثير من النصوص الإبداعية الجيدة ويهمش آنيا الكثير من الأسماء الجيّدة ويغيبها عن الفعاليات الثقافية الرسمية وغير الرسمية". ويشير جبير إلى أنه لمسنا تجارب من الكثير ممن امتهنوا الكتابة أو حشروا في المجتمع الثقافي في غفلة من الزمن او في زمن الفوضى الخلاقة وصاروا يصدرون المنابر والمنصّات الثقافية ويشكّلون مجاميع ويفتحون ويقيمون صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي بغية التسقيط الأدبي أو الترويج لأعمال هابطة وأسماء نكران تريد أن تحقّق لها رواجا سواء في السلب أو الإيجاب. وبحسب قوله قد يجد الكثير فرصتهم في الغيب أو التهميش إلا مثل هذه الظواهر لا يمكن لها الديمومة وإن شاعت في زمن ووسط ملائم لها فإنها لا تدوم إذ الأعمال الجيدة والأصوات الإبداعية الحقيقية في أي جنس من الأجناس الإبداعية تظهر جلية واضحة وترسم أفقها الزاهي بجدارة.


التحرر والحداثة

الناقد المغربي حسن أجبوه يرى أن للحداثة الإبداعية مميزاتها الأنطولوجية التي تتفرّد بها، وكل ما استجد حدث "جديد" وغير مألوف متجاوزًا ما تعارف عليه المجتمع، إلّا وخلق دينامية جدالية بين المحافظين والمجدّدين، ورى أن لكل طرف مصالحه التي يود تكريسها أو لنقل فرضها واستدامتها، لذلك فهي باقتضاب لعبة مصالح تبرز بإيحاءات اقتصادية/ سياسية/ ثقافية/ فنية/ أدبية. وبالنسبة للتحليل النفسي يعتقد أنها تعد تجليات عقدة أوديب حيث الجيل الجديد يريد الثورة على المعتقدات الكلاسيكية في مقابل استماتة الجيل القديم للحفاظ على ما يعده إرثا حضاريا، وبالعودة كما يسميه "الانقلاب" بميدان الأدب والذي تزامن والثورة الرقمية، كان لزاما تشكل طفرة انتقالية تنتصر للاختصار والسرعة والتجميع، فكلّ أشكال الإبداعات الإنسانية عرفت انتقالات نسقية سواء بالفنون والموسيقى أو السينما والمسرح.. وبما أن الإبداع الأدبي هو نتاج إنساني محض، فمصيره مقترن بالذوات التي ترى في ما دأب الجميع اعتباره "أنموذجا" يجب تجاوزه لإطلاق للعنان لحرية الفرد المبدع في ابتكار إبداعات تجديدية تطويرية متفتحة ومتغايرة. ويستدرك أجبوه أن ما يؤاخذ على الأشكال الابداعية الأدبية الجديدة والتي تتناغم مع موجات التحرّر والحداثة هو الإفراط المبالغ فيه، لكسر جماح وتقويض الأسس الجمالية والنبيلة التي تشكّل عماد الإبداع الأدبي ألا وهي: الاستطيقا والجمالية الايقاعية، فمن دونهما تنتفي عن أي شكل أدبي صبغة الابداع.

ويرى أن مثل هذه الكتابات أضحت تنقصها الجمالية وتحظى بالتكريم والشهرة على حساب الإبداع الحقيقي، لذلك فليس كل ما يروج بالضرورة هو المثال المحتذى به، بل ينبغي إتاحة الفرصة للمجدّدين الحقيقيين لانتشال المجتمع من الضحالة والركاكة. وهذا دور الاعلام الهوياتي المرتبط بهموم وانشغالات المجتمع، بخلق جو ديمقراطي وفتح نقاش ثقافي بين جميع الأطراف للتعايش. 

الغث والسمين

الناقد العراقي إياد خضير  يقول إن "النصوص الأدبية من أبرز المصطلحات التي سادت الخطاب النقدي، تطوّرت عبر الزمن دلالاتها المفهومية وتعدّدت التأويلات عبر الخطاب، من الألفاظ في بنية النص الأدبي، والتي تجسد إحساس الكاتب الذي ينقله بدوره إلى المتلقّي من أفكار ذات قيمة جمالية وخيالية من صور وعاطفة والتي تختلف من كاتب الى آخر في النصوص القصة والقصيدة التي تحتوي الأسلوب على العديد من الرمزية، وجهات النظر والصور الخاصة بالقصة والنقد، والصوت والالقاء الخاصة بالقصائد. 

وبحسب قوله فإن الأساليب تتعد وتختلف حسب وجهة النظر وثقافته الأدبية، ولا ننسى الحالة النفسية التي يمر بها الكاتب أو الشاعر أو الناقد من فرح او حزن فهي تؤثر على مزاجية الكتابة فيظهر الغث من السمين بالنتاج الأدبي.. ويرى أن الكتابة المقنعة هي التي تدخل ذائقة المتلقّي وتجعله يواصل القراءة، كذلك ثقافة الكاتب والإحساس بالواقع من عاطفة وذوق سليم وموهبة عالية تؤهل النص وتبعده عن الركاكة، كل هذه الدلالات تختلف من كاتب الى آخر سردًا او شعرًا، أقصد درجات التي تمنح القدرة على الأداء ولا ننسى المجال اللغوي الذي يلعب دوراً كبيراً إذا كان السرد أو القصيدة، الكلمات رصينة، لا يوجد فيها أخطاء إملائية تؤدي الى ركاكتها حتى لو كان الموضوع جيداً، عند تحليل هذه النصوص الهابطة والتي تؤثر على مواطن الجمال، بعكس النصوص التي تبتهج لها الروح ويشترك فيها المتلقي، خصوصا النصوص التي تحمل في طياتها المستوى النفسي والتي تساعد الذهنية في الكتابة والنقد. ويعتقد أن سبب تفشي ظاهرة النصوص الادبية، يعود الى ابتعادها عن النقد الأدبي الذي يقومها، يعود ذلك الى ترفع بعض الكتاب من إرسال نصوصه الى الفحص من قبل الناقد .


الأدب وصلة الإبداع

الشاعر المصري محمد حسني عليوة يرى من جهته وجود عامل مهم في انتشار النصوص التي نطالعها اليوم والتي لا تمت بأيّ صلةٍ إلى الإبداع الرصين الذي يراه يعتمد على فيض إسهامات كاتبه من رؤية فلسفية وفكرة غير مطروقة ولغة نصيّة فارقة عن غيرها، وهو الامر الذي يراه بسبب شيوع مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة التي تستقطب النشر السريع، فضلاً عن لهاث بعض شباب الكتّاب، ممن لا يملكون خبرة أدبية أو تجارب معرفية وثقافية مختلفة، على الشهرة والانتشار بلا أداء ماتع أو قيمة فنية مائزة.. وينوه عليوة عن عامل آخر وهو دار النشر، ومسؤولها الذي لا شأن له غالبًا بالواقع الثقافي، بات يعنيه في المقام الأول الربحية جرّاء إصدار طبعات محدودة لعدد من الكتّاب المتطلعين لتكون لهم مطبوعة ورقية تحمل اسمهم على غلافها، بما في ذلك غياب محررين أكفاء لهم خبرات استشارية في إطار تقييم الأعمال الأدبية المقدمة. لكنه يستدرك منه لا ينكر وجود أصوات أدبية شابّة حريصة على أن تمضي على جادة الإبداع، بما تطرحه من نصوص لا بأس بها، وتقييمها لا يكون وفق أهواء بعض النقاد أو رغباتهم في تمرير نص هذا الكاتب أو ذاك، لكن يكون وفق مقاييس الجودة الإبداعية كالابتكار والتفرد والرؤية الوجدانية للمنظور الحياتي العام وما تشغله نصوص الكاتب نفسه من إدراك معرفي وفلسفي يُثري الوعي الجمعي. 


وسط يكفي الجميع

الناقدة العراقية ملاك أشرف تقول إن: ظاهرة الصّراع قائمةً في الوسط الأدبيّ منذُ وقتٍ قديمٍ أيّ منذُ أيّام الجاحظ وما رافقهُ من نقّادٍ بليغين، فهي ابتدأت آنذاك من عبارتهِ: "إن المعاني مطروحة في الطّريق.. وإنَّما الشّأن في إقامةِ الوزن وتخيّر اللّفظ..". وتضيف: لقد دخلنا بسبب الكثير من أمثالِ هذهِ العبارات في دوامةِ الصّراع بينَ اللّفظ والمعنى في الأجناسِ الأدبيَّة عامّة والشِّعر خاصّة حتّى وصلنا إلى عصرِ النّهضة أو اليقظة الفكريّة وبزوغ الشِّعر الحرّ وبعدهُ الشِّعر المنثور وذهبنا نخوضُ في جدالاتٍ واسعة حولَ الشِّعر الحرّ وبعضهم استجابَ لهُ وبعضهم رفض وبقيَّ رافضًا وآخرون استسلموا لهُ لاحقًّا، والحالُ ينطبقُ على الشِّعر المنثور أيضًا. العقل العربيّ هو عقلٌ يمتازُ بالركودِ والاعتياديّة المُؤطّرة بالخوفِ والتّقديس ما إن يتعرف على نوعٍ أدبيّ معيّن ويمارسهُ لفترةٍ مديدة حتّى يصرُّ عليهِ ولا يبدّلهُ أو يطورهُ، الثّقافة العربيّة تخشى ما هو جديدٌ وحداثويّ، تجهلُ أن لكُلِّ وقتٍ نوع مُحدّد، يتناسبُ مع مُجريات العصر وطبيعة الإنسان والعالم الدّيناميكيّ، في حين أن علينا تجديد الجنس الأدبيّ ووضع قواعد وخطواتٍ سديدة لهُ، نحنُ نمضي بالصّراع والخلاف والتّناقض المُخاتِل، الّذي يولّد تراجعًا فكريًّا وتطورًا بطيئًا ومضيعةً للوقتِ. 

وترى ان العالم الغربيّ أمسى يعملُ على بناء الجنس الأدبيّ ومعرفة ماهيته وكيفيّة كتابتهُ والتّعامل معهُ بشكلٍ صحيحٍ مع مُراعاةِ قراءته بدقّةٍ فضلًا عن التّركيزِ على التّجارب النّاضجة الحقيقيّة واتّخاذها أنموذجًا يحتذونَ بهِ عن طريقِ دراسته وتسليط الأضواء عليهِ بينما العالم العربيّ لا يميّزُ إلى الآن بينَ التّجارب الجيّدة من المُزيّفة؛ جراء القراءة الخاطئة المحدودة والاطّلاع الضّئيل والاهتمام بالاسم اللّامع والشّهرة الذّميمة السّريعة فقط؛ لذا نلحظُ الرّسائل والأطروحات والصّحف المُتناولة لشخصيّاتٍ أدبيَّة- ليست أدبيّة طبعًا- ساذجة وبلا وعيٍ وثقافة عميقة وعليهِ تسود النّماذج المُخادعة الاستعراضيّة وتبقى النّماذج المُتبصِّرة الرّشيدة العميقة في الظّلِ من دونِ معرفتهم والدّراية بِهم وهو مالا تواجههُ الثّقافة الغربيّة، المعنية بالجودةِ والبرّاق والحرص على دراستهِ وزهوه.

وبحسب رأيها فإنَّ على الوسط الأدبيّ أن يعي جيّدًا أنه وسط شاسعٌ ويكفي الجميع فلا داعي للأحقاد والإقصاء وتشويه مسيرة الأُدباء والمُنافسات والمُسابقات المريضة المُخيفة حقًّا، بل يجب أن يركنوا الاسم السّاطع والذّيوع على جنبٍ والتّمعّن في الكتبِ وقراءتها بصورةٍ صحيحة ومُتأمّلة وأن يسعوا نحوَ الاطّلاع المعرفيّ الدؤوب وصقل الذّوق ومن ثُمَّ الكتابة والنّقد بعدَ الخبرةِ وتمّحيص الأمور كي يزخّرَ الوسط بدراساتٍ ومقالات بارعة تحوي على أسماءَ مُهمّة، وضروريّ تواجدها في الأعمالِ فعلًا، إذ نحنُ نملكُ أسماءً شعريّة مُختصّة بالتّفعيلة والنّثر بهيّة ومهمّة لكن بسبب ذهنية الكُتَّاب التّافهة بلا دراسةٍ وقراءة مُمتازة أفضى بنا الواقع إلى بروز نماذج ذات كتاباتٍ ركيكة مُترهّلة لا ترتقي إلى مستوى الشِّعر أو النّقد وعليهِ يحصلُ سوء الفهم بشأن الأنواع الأدبيّة والصّراع اللّا نهائيّ!