جرس الدرس الأخير

ثقافة 2023/02/18
...

 شكر حاجم الصالحي


لكَ أن تبتهج بقامته الشعرية المديدة، وتزداد بهجةً لقربك منه فمنذ أواسط ستينات القرن المنصرم، كنت قد أغوتك موجة الشعر بتجلياته العاصفة، وكنت تقرأ له بدهشة وإعجاب، ومازلت إلى يومك هذا تحس طعم [الكوميديا العراقية] التي أحدثت دوياً صاخباً عند نشرها في (الكلمة) التي كان يصدرها الراحل حميد المطبعي، ومن تلك الأيام على ما فيها من التباسات، سلكتم معاً دروب الإبداع والمحبة ولقاءات المساءات الجميلة في بيت أمه الراحلة (بداري)، وأماكن أخرى ما زالت حلاوتها تكتب بحميميتها صفحات من الرقي الإنساني، وكنا ثلاثتنا - الشاعر والمفكر ناجح المعموري والأحول ابن العلوية لا تفترقون إلا لتلتقون على بساط الشعر والمتع النبيلة رغم وجهات نظركم في العديد مما يحيط تلك الأيام من مشكلات وخسائر فادحة لم تستطع فك أواصر تلك اللحمة الإنسانية، وكنتَ - أنت - وما زلت من المثابرين على قراءة نصوصه المشاكسة المغردة خارج سرب المألوف الشعري، وله عشرات النصوص الصادمة التي تغوص في عمق الذات العراقية ومكابداتها، ومن بين أهم تلك النصوص التي قالها موفق محمد ولخصت رؤيته لواقع معاش فرضته طبيعة الحياة وقوانينها بإنهاء الحياة الوظيفية لمئات بل آلاف القدرات تحت يافطة السن التقاعدي، وكان شاعرنا أحد المتقاعدين من مهنة التدريس الأثيرة في نفسه، فأنتج لنا (جرس الدرس الأخير) النص الباذخ في استثمار مهارات 

لغته في ابلاغ النص ذروة تآلفه بعبارات دالة على فداحة ما يتعرض له الإنسان في هذا الزمن: أقف الآن دقيقة حداد على موفق محمد/ بعدها أبدأ بالرقص مذبوحاً/ بالساعات التي تلسع عقاربها في جسدي/ فيسيل الدم زعافاً من عينيَ ومن شفتي/ ويساقط هذا العمر هباءً منثورا/ ... / فينوح حمام هنا ويموت حمام هناك، والريح تكنس، ثم تكنس، ثم تكنسك الحكومة والبلاد.

في (جرس الدرس الأخير) يكون الشاعر موفق محمد قد بلغ السن القانونية!! وأحيل على التقاعد حداداً على موفق محمد المدرس، ليرقص مذبوحاً من الألم، وليبدد العمر هباءً ولتتفضل (الحكومة) بكنسه من الحياة/ التدريس، فيتحول إلى طاقة معطلة، بفعل قوانين نافذة لا تمنح المتميزين استثناءات للاستفادة من خبراتهم المتراكمة، ولذا فإنّ الشاعر المدرس يخاطب طلابه بهذا النشيج الموجع: سأضع برفق كل ما تبقى منّي حياً/ هنا قريباً من سارية العلم/ وأخرج تابوتاً يسعى بقدمين إلى مقبرة السلام/ فكيف سأسحب خمساً وستين من الضيم المعتّق/ بصدر مكسور الأضلاع/ وكيف سأحيا بقلب لا يحفظ أسماءكم ولا ينبض بها/ .../ وماذا سأفعل بيد لا تشير إليكم/ وأصابع لا تمسك الطباشير/ لتجرَّ لكم المستقبل من ليل السبورات/ الذي لفنَّا طويلاً.

إنَّ نصَّ (جرس الدرس الأخير) تراجيدي بكل ما فيه من صور صادمة، وهو مرثية عمر طويل من المعاناة والحياة المنتجة النابضة بالعلم الذي أقصته القوانين النافذة وجعلت من واهبه طاقة لا حياة فيها ولها، ومن هنا تأتي لوعة موفق محمد وأوجاعه، وهو الذي منح طلابه حياته مدرساً متميزاً وأخاً كبيراً وصديقاً مخلصاً، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان يا موفق؟ وهل هذا كل ما تبقى منك: على شاهدة سوداء كالليل/ لم يبق من موفق محمد/ شيء لم تأكله المقطّات/ لم يبق من قلم الرصاص/ سوى الممحاة البيضاء التي في رأسه/ أهذا ما تبقى لي أيتها../ فحين أنظر في المرآة/ أرى شجاً أعرفه/ أترى يعرفني هو الآن؟

وهكذا تنتهي الرحلة الخاسرة، رحلة موفق محمد مع مهنته المحببة (التدريس) الذي أصبح بفضلها مثل قلم الرصاص بممحاة في الرأس الاشبيب، وهذا هو حال موفق محمد بعد عقود في تدريس العربية لغته التي كتب فيها أروع قصائده الخالدة. 

واخيراً لا بد من الاشارة إلى أن موفق محمد يظل من أبرز شعراء الوطن على امتداد هذه الحقبة الضاجة والمحتشدة بالعشرات من الشعراء، ولأنه شاعر مقتدر استحق هذا الانتشار والاهتمام في ضمائر ونفوس محبيه. وفي الختام هذه السطور ليست سوى اشارة إلى صدور الطبعة الثانية من كتاب الاحول ابن العلوية في أواخر عام 2022 والتي حمل عنوانه الإشكالي: شاكيرا.. تراقص موفق محمد.