سقوط بيت الشاعر بجيكور

ثقافة 2023/02/18
...

   طالب عبد العزيز 


في السنتين الأخيرتين من العام 1800 يكون الجد الأعلى لأسرة الشاعر السيّاب قد أكمل بناء بيته الكبير على طرف بستانه، بجيكور جنوبي البصرة. البناة المحليون يعاونهم فلّاحوه وعبيده أقاموا بالطين اللازب والمداف بالحلفاء والعرق جدرانه، الجدران العالية تلك كانت عصية على الدهور، فقد ظلت شاخصة الى اليوم، تعافها يد البلى، لكنه، وفي الساعة التي أراد فيها تسقيف فضاء الغرفات، ورسم شبابيكها على جهات الريح الأربع كانت المراكب المحملة من الجزيرة الخضراء وزنجبار بأعمدة المنغروف (الچندل) قد رست في ميناء (ابو فلوس) لذا، سيتوجبُ علينا الوقوف على يابسة الميناء، وتأمل الأخشاب العملاقة تلك، التي ستكون سقوف وشبابيك بيته.


 كانت أعمدة المانغروف (الچندل) حديد القرنين الثامن والتاسع عشر وشطراً من القرن الماضي، وسوقها في البصرة بالخندق، قرب نهر العشار، ولها سوق ثانية في قرية المحيلة أو عند مدخل أحد الأنهر في ابي الخصيب، ولعله قرب دائرة الكمرك العثماني بالسراجي، الأسواق التي لم تعد قائمة اليوم. تقطع الاعمدة تلك من غابات متشابكة بشرق أفريقيا، وتظل خضراء، خضراء لكنها تسوَّدُ بالأيام، ولئلا تقربها حشرة الارضة تطلى بالقطران، لهذا، فهي العصية في الزمن. أتأمل الفؤوسَ بيد قاطعيها من العمالقة الزنوج، أو وهي تهوي، يوم لم يكتشف الإنسان آلة القطع التي تعمل بالزيت بعد. كنتُ شاهداً على مخازنها في دوكيارد العشار، كلّ عشرين چندلة بربطة واحدة، تسمّى كورية أو كورجة، اللفظة سواحيليّة (korja) كانت السفن الصغيرة آنذاك تحمل نحواً من 200 أو 300 كورية لاغير، فهي ثقيلة جداً، وها أنا ذا أعاين تأرجح السفن على الماء ساعة فكِّ ارتباطها بالميناء.   في يوم خريفي جداً، من العام 2015 كنت صحبة الشاعر عبد الزهرة زكي، في زيارة تأمليَّة لبيت الشاعر بدر شاكر السياب، بأبي الخصيب، وحدث أن وقفنا على أعمال الترميم، التي أنيطت بأحد المقاولين المحليين، ولأنّني من سكان إحدى القرى هناك، وأعي عن قرب جغرافيا المكان، وتقلبات الطقس فيه، فضلاً عن كوني قد أمضيت شطراً من عمري في بيت من الطين والطابوق، مسقّفٍ بالچندل (المنغروف) والقصب والبواري، وأعرف آليّة البناء تلك، محاسنها ومساوئها، فقد سجلتُ ملاحظات عدّة على عملية الترميم، وقلت لمرافقنا بأنَّ السقف سينهار في بحر السنوات العشر المقبلة، وكنت عند توقعاتي بالفعل، فقد سقط السقف قبل أسبوعين، بفعل الأمطار، وسوء الترميم، ورداءة المواد المستخدمة، وربما لعدم معرفة (المقاول) بما يجب عليه القيام به في إنجاح مشروع تراثي كهذا.  عرف العرب في الجاهلية شجرة المانغروف، فقد كان يؤتى بها من الجزيرة الخضراء (لامو) بشمالي زنجبار وتسمّى (سيمبورنقا) أي عيون الاسد، أو صخرة الانسان، وكانت قد وردت في قصة مازن بن الغضوبة الخطامي الحضرمي، سادن الصنم "باجر" فهو الذي سمع الصوت الذي أخبره ببعثة النبي: "اقبِلْ إليّ اقبِلْ - تسمعُ ما لا تجْهلْ/ هذا نبيّ مرسلْ- جاء بحقّ مُنزَلْ/ فآمِنْ به كي تعدِلْ- عن حرِّ نارٍ تشتعلْ- وقودُها بالچندل" . لم يسمع المقاولُ الذي أنيطت به مهمة ترميم بيت السياب في العام 2015 بالشجرة هذه، ولا بقصة سادن الصنم "باجر" مع النبي إنما حمل دنانيره وذهب الى السوق، حيث تباع أعمدة (القوغ) التي يستخدمها مربو الابقار في بناء زرائبهم فسقَّف بيت الشاعر. يقول ريلكه: "كيدِ طفلٍ هو منزلُ الفقير/ لا يقبضُ على ما يريده الكبار/ بل على جُعَّلٍ مزخرفِ الشفراتْ/ وعلى حَصباءَ مستديرةٍ يجرفها التيار/ وعلى الرمل الذي يهربُ من يدي/ وعلى الأصداف التي لها رنين..".

  كان أعضاء الفرقة التي أحيت أول حفل موسيقي (سبرانو) في كنيسة نوتردام بباريس، عقب حريق العام 2019 قد ارتدوا ملابس عمال البناء، ابتهاجاً بترميم الجزء الأكبر منها، فيما اضطر المهندسون الذين كُلفوا بإعادة بناء البرج الى قطع اشجار البلوط العملاقة. الاشجار هذه كانت قد زرعت قبل 200 سنة من أجل توفير الأخشاب اللازمة لترميم السفن التاريخيّة بفرنسا. ومن قبل كانت إدارة المتاحف قد رصدت ملايين اليوروهات لترميم لوحة (دورية الليل) التي رسمها رامبرانت في العام 1642 والتي مازال يقصدها أكثر من مليون زائر سنوياً، عملية ترميم اللوحة هذه تتم عبر أخذ صور عالية الدقة، وتستخدم فيها أدوات تحليل رقمية لكل طبقة من الطلاء، القضية التي تطلبت حضور 25 عالما وباحثا وخبيرا. أما مرحلة البحث عن هؤلاء العلماء فقد استغرقت سنة كاملة، يتم ذلك كله أمام أنظار زوار المتحف. لا أوصي بزراعة أشجار المانغروف ولا البلوط قرب بيت الشاعر، فما نحن في زنجبار وفرنسا، لكنني، أعتقد بأنَّ فريقاً بحثياً مختصاً بترميم الآثار سيكون صاحب الكلمة الأخيرة في اختيار مواد البناء البديلة أو المقاربة لمادة بنائه الأولى.