الثقافة والمَدَنيَّة

ثقافة 2023/02/19
...

 أ. د. باسم الأعسم


إنَّ الثقافة والمدنية توأمان، إذ إن المدنيَّة نتاج المجتمع المثقف، والثقافة تعبير عن مدنية المجتمع المزدري للعنف والإرهاب، وفي ظل السلام يَزدهر الفكر المدني الطارد للعسكرتارية، وينمو الفن كحاجة ماسة، وخطاب إنساني يعزز نزوع الناس باتجاه مدنية المجمع القائم على العدل والسلام والحرية، والراعي لحقوق المرأة والطفولة وحقوق الإنسان.

وبحسب المنظور الواقعي في أعلاه، ندرك أن المدنية ملاذ آمن لكل شعب واع، تواق لمستقبل وضاء، يحلم في عيش كريم في منأى عن المنغصات التي تحول من دون تحقيق رؤاه وأحلامه وتطلعاته المشروعة في العيش بسلام. ولذلك، تمثل المدنيَّة في أخص معانيها الواقعية، النزوع الطبيعي لتحقيق الذات الإنسانية في أنصع وجودها، ومن ثم الانعتاق من أتون الحروب والأزمات، التي تحيق بوجود، وحيثيات الإنسان فتمسخهُ. لذلك، كانت المدنية ولم تزل العلامة الثقافية الدالة على النمو والتحضر، وهما أساس التطور.

إنَّ واقعنا المدني الذي نحياه، يشير إلى مسافات ضوئية في عمر الزمن، تبعدنا عن التمثل الحقيقي للحياة المدنية المحكومة بسياقات المتمدن، إذ إن المجتمعات التي ترزح تحت نير الأعراف البائدة والتقاليد الراكدة، والازدواجيات الجامدة، والصارخة بين السلوك والفكر، فضلا عن هيمنة النزعات الطائفية والقبلية التي تحول من دون انبثاق الثقافة المدنية، لا يمكن لها أن تحيا مثلما هي المجتمعات المرفهة.

لذلك، ينبغي على الأنظمة أو المجتمعات التي تروم تحقيق السعادة، أن تحتكم إلى المفاهيم المدنية، بوصفها أنساقاً ثقافية من أولوياتها صيانة السلم المجتمعي، ومراعاة حقوق الإنسان، وإشاعة حرية التعبير والفكر، وتلكم دعائم المدنية، التي أضحت من ثوابت وبديهيات المجتمعات المدنية المتحضرة، التي تشكل الثقافة والفلسفة والحرية فيها، أخص دعائمها، مثلما هي الحال في المجتمع اليوناني، الذي شكلت فيه الفلسفة والفنون، عتبة البناء الديموقراطي الذي أرسى أسس المجتمع المدني، حتى قال أرسطو: إن الإنسان مدني الطبع، وكانت أثينا حاضنة للثقافة والمسرح والفن، وآلهة الجمال، فاضحت مثالاً للمجتمع المدني الديموقراطي المثقف.ولكى تتوافق المدنية مع التطلعات الثقافية والفنية والجمالية للناس، ينبغي أن تأخذ البنى الفوقية. كالثقافة والآداب والفنون والفكر والقانون مدياتها التطبيقية على صعيد الواقع، بحيث تستحيل المدن إلى منتجعات سياحية آسرة، تختفي فيها مظاهر العنف، وأشكال القبح، عبر استثمار عناصر الإبداع في مجالات الحياة كافة.لذلك، أن وجود المسارح، ودور السينما، وقاعات الفنون التشكيلية، ومنظمات المجتمع المدني يعد علامة شاخصة على مدنيّة المجتمع. غير ناسين التطلّعات العفويّة أو الغريزيّة عند الناس على اختلاف ثقافتهم وانحداراتهم الطبقيّة باتجاه الفعاليات، أو الأنشطة التي تشيع الفرح والبهجة والمدنية، كالرياضيّة والثقافة والفنون، ولعل الحدث الأبرز الدال على ذلك هو (خليجي 25) الذي عبر بدقة متناهية وواقعية، عن حاجة الناس الملحة إلى الأحداث والقرارات، التي تسعدهم، وتعزز قناعتهم بجدوى الممارسات المدنيّة ذات الإطار الثقافي. على شاكلة البطولات الرياضيّة والعروض المسرحيّة، والأوبراليّة، والموسيقيّة، ومعارض الكتاب، وبناء المرافق السياحيّة، التي تشبع عيون المشاهدين، وتسر قلوبهم.

كما أنَّ وضع الشخص المناسب في المؤسسة المناسبة، يختصر الطريق ويعبده باتجاه تحقیق مجتمع مدني متنور، خالٍ من الإشكاليات التي تعيق مسارات النهوض الحضاري المتمدن. فمن غير المعقول أن تدار المؤسسات على وفق مفاهيم ماضوية متخلّفة سادت ثم بادت، يتمثلها أناس محافظون، مغلقون، فالمدنية تعني: التقدم والبناء والإعمار، على النقيض من التخلّف والتأريف والاندحار. وكلما سار المجتمع خطوات صوب التمدن، فإن ملامح المستقبل الوضاء تبدو واضحة للعيان، مثلما هي المجتمعات الحرة، ذات الأنظمة الليبرالية خاصة، التي تعمل على وفق الشعار الآتي: (دعه يعمل دعه يمر).إنَّ الثقافة والمدنيَّة، مشروطتان بتوفر الحرية، التي تعد السياق الثقافي الرئيس لبلوغ المجتمع المتمدن، وقـطف ثمار المدنية، والعكس صحيح جداً في ظل غياب الحرية وسيادة الفكر المتطرف عقب هيمنة الوحوش البشرية المتخلفة والمنطلقة من جحور التاريخ المظلمة والمسندة بفتاوى التحريم والتجريم والقتل والتأثيم، إذ تسود ثقافة التكفير والتفجير، في ما تغيب حرية الرأي والثقافة والتعبير، فتغدو المدنية في خبر كان، ويكون الخاسر هو الإنسان ولذلك أن شيوع الثقافة والتمدن وازدياد المثقفين يخيف الجهلة والأميين.