«الأدميرال لا يحبُّ الشاي» ما خلف الكوب وما بعده

ثقافة 2023/02/19
...



  ابتهال بليبل 

 في روايته الجديدة «الأدميرال لا يحبُّ الشاي»، الصادرة حديثاً عن دار الساقي للنشر والتوزيع، يغامر نزار عبد الستار بالتوغل في (لحظة الماضي) القلقة ليجرّها إلى (لحظات الحاضر) المضارعة لها، مغامرة محسوبة العواقب، إذ يمسك بتقنياته السردية من تلابيبها ليصل إلى ما يريده منها من دون أن يفلت زمام السرد منه نحو ألسنة التأويل البعيدة التي لا يريدها هو. 

وهذا النهج يغري القرّاء المُطلعين للولوج والمكوث في متن النصّ ومن ثمّ المشاركة في لعبة مطابقة ومقارنة ما بين الشخصيات والأحداث، بل قد يعود بعضهم إلى كتب التاريخ بحثاً عن أثر لهم. لكن الرواية بتفاصيلها الدقيقة تذهب إلى أبعد من كونها مجرّد تمرين سردي نخبوي تاريخاني يختبر معرفة القراء بأحداث مريبة جرت في القرن التاسع عشر. بل هي استكشاف لفساد استشرى ذات زمن، وهي مشكلة تتفاقم بشكل ملحوظ نتيجة الأزمات الاقتصادية دائما -أقصد استشراء الفساد- حيث يكافح “الأدميرال لانكستر” ومن خلال استغلاله للأوضاع التي تتاح له.. للهيمنة على كلّ من حوله.وهم ضحايا بطرق مختلفة لتجارة الشاي الذي ظهر فجأة بعد أن تخلّت عن صناديقه الخمسة الباخرة “كلايف” المقبلة من بومباي في ميناء البصرة، حيث الأشخاص الذين يفتقرون إلى أبسط وسائل المعرفة، والمقاومة إزاء لغة شرسة ترويجية مغرية وأفكار معتمة، غامضة تأخذك في صراع مع الإيمان والخسارة، مع القادم (المبهر).. والماكث الذي (اعتدته) لتصارع ذاتك ومزاجك في معركة خاسرة لا يربح منها إلّا من ورطك فيها. 

تستكشف الرواية بتأنٍ وتمهلٍ جانبي الخوف والقلق، وما يعنيه أن تعيش مدينة تحت عنف لأشكال مختلفة من الاستعمار التجاري. على الرغم من أن سطورها -هذه الرواية- تتحدث عن حقيقة معاناة الشعوب تجاه ما يعنيه التعايش مع الاحتكار والاستعباد، إلّا أن (الخوف) هنا، هو الذي يربط فكرتي التجارة بالبقاء على قيد الحياة.يلعب “الأدميرال لانكستر” الذي يقضي عقوبة النفي في البصرة دوراً معقداً ومتشابكاً في كيفية قراءة العمل وتجربته، خاصة بعد تعميده بظنون “براين ليس” التي دوّنها الروائي: “إنّ الأشرار يمثلون عدالة غير مرئية، ويتلقون الأوامر من فوق الغيوم، وأنهم حين ينظرون بعمق إلى شيء ما فإنّهم يسألون يسوع المسيح إن كانت لديه كلمات يتوجب الأخذ بها”. يمكن للقارئ أن يفسّر تلك المقولة على أنها حقيقة متوازنة عن نشأة القلق، ومهمة الحركة في جسدٍ محتكر، وقيامة ذات مستلبة، وكلها أفكار يركز عبد الستار عليها بعمق، إذ يجسّر ما بين (الفكرة) العامة التي تبدو بعيدة ورومانسية، و(الفكرة) الخاصة التي يُمتحن بها الواقع.وفي “وآكشي والطفل اليتيم”، نواجه حياة “الأدميرال” في تسلسل زمني لمراحل مختلفة من طفولة ويُتم إذ تلعب العنصريّة، ووباء الطاعون، دورهما، كما هو الحال مع قوانين المستعمرات التجاريّة، إذ يشير عنوان الفصل “وفي وآكشي والطفل اليتيم” إلى إحساس مناسب بالبداية.. هذه هي البداية التي ستبلّور ملامح شخصيته وسلوكه العنيف، وهو “ابن الشيطان” كما كان يُعتقد ويتم وصفه. وكان قد “محا 28 قرية وبتر أطراف 500 هندي، وتركهم ينزفون حتى الموت، وشغّل النساء والأطفال في الزراعة، وأوجد قانوناً عقابياً هو بتر اليد اليمنى مع الساق اليسرى للرجال، واستئصال أثداء النساء”، لكن، وتحديداً في لحظة نادرة، يكشف عبد الستار عن هوية الأدميرال الدينية وإيمانه بفلسفة كتاب “البهاغافاد غيتا” الهندوسي الذي يتركه أمام خيار ضئيل من خلال تمسكه بمبدأ تقاسيم الثروة، خاصة عندما يقول الأدميرال إن “الخلافات لن تذوب من تلقاء نفسها. علينا اقتسام السوق وبعدها نتنافس بشرف”، أو “أنا مستعد لتغيير أفكاري التجارية إذا أخذت منك نصف السوق. العدالة تقوي بداخلي السلوك الحسن، وتمدني بالشرف”.

يستحضر عبد الستار في روايته أيضاً خيالاً فوضوياً جنسياً، إذ تبدو صاحبة الحانة “عاشقة عزيز” ليست مجرد شخصية خارجة عن التوقعات، فالخيال هنا ليس مجرّد إشباع للرغبات، بل هو أيضاً طريقة للتخلص من الفشل والسيطرة عليه، فإنّ اللقاءات الحميميّة التي تجلت بطاقة عنف، هي ليست رغبات متعددة الأشكال، بل هي هروب...أو بعبارة أخرى، إنه يسخر من الوجود ويتفه مكانته.

ففي الحانة - العالم الجنسي البدائي الذي يتسم بضبابية العلاقات والاتصال الذي لا ينزاح عن قانون الاستعباد - لم يعد خيال “الأدميرال عزيز” الطوباوي بديلاً عن الواقع.. في فعل قد يُقرأ على أنه عقاب لكل من حوله على الرغم من أنه اعتراف بحتمية أن “لكل شيء ثمناً” ولكن أن يكون ثمن الرغبة الجنسية هو ذاته رغبة المأكل والمشرب، من شأنه أن يعيد تنشيط الرعب المغمور تجاه موت القداسة، ليس لديه خيار سوى دمج كل من العنف والمتعة أو بمعنى أدق - الرغبة أو الحاجة- وهو يتصارع مع كيفية العثور على هويته في خضم ذلك.. ربما هذا الشيء نوع من التعافي المضطرب.. ولكن إثبات الهوية حتماً مشكلة مفتوحة لا يمكن حلها بسهولة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالضياع ما بين زراعة الأفيون وتجارتها إلى الشاي ومحاربة الذين يتاجرون بالقهوة.

في النهاية، نقرأ تيار المصالح الواعية لرجل شكلته العنصرية التي تكتشف إنسانيته عبر أعمال عنف مروعة وانفصال عقلي، فالرواية التي تهتم أحداثها بالأساس “بتجربة الأدميرال عبر “أطلق النار من مسدس هولندي على لوحة يظهر فيها رسم السيدة بريطانيا»، وبالتأمل فإنه غالباً ما تكون العلاقة بين بداية الرواية وتفاصيلها مع نهايتها، وتحديداً في الخاتمة «يبدو أن السيدة بريطانيا لم تسامحني»، تُجبرك على التوقف وإعادة القراءة من جديد، لتعثر على ما يمكن أن نصفه من شعور «كما لو أن الأشياء والمفاهيم التي يتكون منها العالم تجبرك على مراقبتها، حتى نلمح ما كان مخفياً داخلها»، وهي رؤيا منطقية تلخص بإيجاز تلك المأساة النهائية للأدميرال.وأخيراً في هذه المدونة السردية الممتعة عليك أن تتيقظ وتنتبه وأنت تقرأ، إذ إنّ ثمّة صفعة مرتقبة قد تكون وراء كلّ تلويحة عابرة، أو إشارة سلام، أو فنجان قهوة، أو كوب شاي.. هكذا ينجح الروائي في إشباعنا بالقلق ممّا حولنا، ومن ثمّ يزرع الوعي في مخيلتنا لما يدور وسيدور دائماً في عالم تتحكم به شركات قد لا نراها أبداً ولا نعرف حتى عناوينها.