اللاشيء بين المفهوم والواقع

ثقافة 2023/02/19
...

 ترجمة: حيّان الغربيّ


هل اللاشيء شيءٌ موجودٌ؟ هل بمقدور أي أحد أن يرى اللاشيء؟ كيف يبدو اللاشيء يا ترى؟

تخيّل أنك تسمع صخباً خارج النافذة، فتظن أنه كلبٌ ينبح ربما، أو لعلّه طفلٌ يصرخ، ولكن حين تنهض وتلقي نظرةً إلى الخارج لن تجد كلباً أو طفلاً، وحينها ستقول: «حسنٌ، ليس هناك شيء».غالباً ما نقول: «ليس لدينا شيء» أو «ليس هناك شيء»، ولكننا نقصد شيئاً بعينه أي أنه ليس لدينا ذلك الشيء الذي نقصده. فحين نظرت عبر النافذة شاهدت الكثير من الأشياء، كالأشجار والمنازل والسيارات والدراجات الهوائية وغيرها ربما، ولكن الشيء المحدد الذي كنت تنشده هو الشيء الذي لم يكن موجوداً.

وحتى وإن كنت تنظر في غرفة فارغةٍ تماماً، ستبقى بعض الأشياء موجودةً، فالهواء موجودٌ والهواء مكونٌ من الجزيئات مثل الأكسجين الذي ينبغي علينا أن نتنفسه كي نبقى أحياء.ولكن ماذا عن الفضاء؟ ليس ثمة هواءٌ في الفضاء، ولذلك يحتاج روّاد الفضاء إلى ارتداء بدلة الفضاء التي تزوّدهم بأكسجين الحياة لدى خروجهم في «جولةٍ فضائية».هناك جزيئات في الفضاء بالفعل، ولكنها قليلةٌ ومتباعدةٌ لدرجة أن الخواء هو السائد على الغالب، وهذا ما يسمى بـ: الفراغ. ولعلّنا نعتقد أننا سنجد «اللاشيء» في الفراغات الفاصلة بين النجوم التي يسعنا رؤيتها ليلاً حيث لا يوجد إلا القليل من الجزيئات.مع ذلك، لقد تبيّن أننا حين ننظر إلى تلك الفراغات في الليل فهذا لا يعني أننا  نرى «اللاشيء». فالطاقة تملأ ذلك الفضاء الخاوي، والطاقة شيءٌ ما وإن كان غير ممكنٍ الإمساك بها باليد، لا بل إنها الشيء الذي يجعل من الأشياء ممكنة الحدوث.

الطاقة لا تفنى ولا تخلق من العدم (اللاشيء). وهكذا، حين تجري، فإن الطاقة المنعكسة في حركتك هي الطاقة التي حصلت عليها من الغذاء الذي قمت باستهلاكه. وحين تتوقف، تتحول الطاقة إلى حرارة وتمارس تأثيراً ضئيلاً جداً على حركة الأرض إذ تحتكُّ قدماك بها لدى توقفك.أدرك أينشتاين أن الطاقة والجسيمات (وهي أجزاء صغيرة جداً من المادة) تشكّلان وجهين لعملةٍ واحدة، تكوِّن الطاقة تلك الأشياء الأصغر على الإطلاق، وفقاً لحدود علمنا، بما فيها الجسيمات التي نفوقها حجماً بمليار مليون مرة. ومنذ زهاء قرن، أدرك العلماء أن هذه الأشياء الدقيقة تتصرّف على نحوٍ مختلفٍ عن الأشياء الأكبر حجماً في الكون، إذ إنه من المتعذر توقع سلوكها بصورةٍ دقيقة، وليس بمقدورنا وصفها إلا باستخدام نظرية «ميكانيكا الكم».   


الجسيمات والجسيمات المضادة

يعني هذا أيضاً أن محتوى الفراغ لا يساوي الصفر تماماً، فالجسيمات الصغيرة في الفراغ قد تصادف الجسيمات المضادة لها تماماً «الجسيمات المضادة»، وحين يحدث هذا فإن الجسيمات والجسيمات المضادة تلغي بعضها بعضاً وتتلاشى، بيد أن هذا يترك أثراً وهو الطاقة التي كونت الجسيمات والجسيمات المضادة أصلاً.الفراغ في الفضاء هو عبارةٌ عن «حساء» من الطاقة وأزواج الجسيمات والجسيمات المضادة، وقد اقترح العالم الهولندي، هندريك كازيمير، طريقةً لإثبات هذا الرأي في العام 1948، وبعد أكثر من نصف قرن، تبيّنت لنا صحة ما ذهب إليه.فالطاقة التي تملأ الفراغ تجعل الكون يزداد اتساعاً مع مرور الوقت مثلما يحدث حين يقوم المرء بنفخ البالون.

علاوةً على ذلك، يحتوي الفراغ الفضائي على أشياء أخرى أيضاً، فهناك ما يسمى بـ: «الحقول»، التي تعد طريقةً تساعدنا على وصف التأثير الذي يمارسه شيءٌ ما ضمن منطقةٍ معينةٍ من الفضاء. على سبيل المثال، تشدّ الأرض القمر عبر الفضاء عن طريق حقلٍ يسمّى بحقل «الجاذبية».وحين عكف الفيزيائي ذائع الصيت، ألبرت أينشتاين، على استنتاج كيفية عمل الجاذبية، تبيّن له أن للفضاء شكلاً محدداً بالفعل، إذ إن الأشياء كبيرة الكتلة، مثل النجوم والكواكب، تحني الفضاء المحيط بها مثلما تحني كرة ثقيلة بطانيةً معلّقة على امتدادها وتغيّر شكلها. وطالما أن للفضاء شكلاً، إذن لا يجوز لنا أن نَسِمَهُ باللاشيء.يبدو أننا سنعجز عن العثور على «اللاشيء» في أي مكان ضمن كوننا، فلعلّ المكان المناسب للبحث عن اللاشيء يقع خارج حدود هذا الكون. لربما كان هذا أمراً يستحيل حسمه، فالكون هو حيث يوجد المكان، وحيث توجد المادة والطاقة، وحيث يوجد الزمان.


هل العدم خارج الكون؟

شرح الفيزيائي ستيفن هوكنغ الكون بوصفه لا حدود له، سواءً من حيث المكان أو الزمان، فحين تكون داخل منزلٍ ما، تشكّل الجدران حدود المكان كما يمكنك أن تفكّر في ما يوجد في الخارج أو لعلّك تراه من خلال النافذة. ولكن إن لم يكن للكون حدود، إذن لا يوجد شيء يمكننا أن ندعوه بـ: «الخارج»، كما لا يوجد ما يمكننا أن نحدده بالظرف «قبل». وإننا إذ يمكننا أن ندعوه بـ: «اللاشيء»، بيد أنه حريٌّ بنا أن نقول بأنه غياب أي شيء.ولكن «اللاشيء» موجودٌ بوصفه فكرةً، وبوسعنا أن نستخدم «اللاشيء» في العد إذ إن فكرة «الصفر» ما زالت تستخدم منذ نحو أربعة آلاف عام، كما أن الرمز الإهليلجي قد منح لمفهوم الصفر منذ ما يربو على ألف عام.    إذن، لعلّ العقل البشري يوفّر المكان الوحيد ليتواجد فيه «اللاشيء» بوصفه

فكرة.