في جماليَّات الاحتجاج الصامت

ثقافة 2023/02/20
...

 د. سعد عزيز عبد الصاحب


أصبح من نافل القول بأن فلسفة ما بعد الحداثة في الفنون ارتبطت بشكل وثيق بفلسفة نيتشه التي تنفتح على ضرورة القضاء على ما تبقى من قيم العالم الحديث عن طريق الاسهام في هدم القيم البالية وفضح النزعة المثالية وتقويض الميتافيزيقيا وكان لفكرة الانتظار وتفكيكها في المشروع الما بعد حداثي أثر بالغ في الدراما المسرحية المعاصرة فكتب الفرنسي (بيكيت) مسرحية في انتظار غودو لنقد ورفض فكرة الانتظار ومضمونها والسعي لتخليص الفرد من مآلات الاستكانة والاستسلام والوقوف في أعلى التل لانتظار المخلص.


وتم نقد بيكيت من قبل المركزيات الاوروبية كالكنيسة والجامعة والسلطة السياسية، لأنّه قارع مفاهيم قارة وثابتة في الوعي الجمعي للسلطة والفرد ما بعد الحرب العالمية الثانية وكانت الأجواء الاجتماعية الغاضبة تتيح هذا الاحتجاج الرمزي للميتافيزيقيا تلك الفترة، فلا أحد يذهب ولا أحد يجيء تلك المقولة الشهيرة لـ (ستراجون) في المسرحية.. حاول المخرج المبدع انس عبد الصمد بقراءته العراقيّة الفرانكفونيّة لنص بيكيت أن يقوّض فكرة الانتظار مرة أخرى وذلك بإدانة بيكيت نفسه على وفق فرضية (موت المؤلف) فيضرب صورة بيكيت الجاثمة في خلفية المكان بالبيض النيء والتعريض بمسرحيته التي انتقدت فكرة الانتظار وحاولت أن تعلي من قيمة الفرد ازاء الميتافيزيقيا وحضورها؛ لذا جاءت هذه التعارضات والتباساتها لتخلي الساحة لعديد من الأسئلة الحاكمة: هل العرض كان يدين بيكيت نفسه أم فكرة الانتظار التي جاءت بها مسرحيته (في انتظار غودو)؟ أم أن العرض قوّض فكرة الانتظار بنسقها التجريدي العام لنقدها والخروج بخطاب احتجاجي رافض لفكرة المخلص؟ حقيقة هذه الأسئلة ومثيلاتها لم تمنع مشاهدتنا لعرض مدهش على المستوى البصري بإنشاءات سينوغرافية لافتة أخذت بعضاً من مرجعيات النص الأصل كالشجرة الجرداء وشخصيات فلاديمير وستراغون وبوزو. 

وأرى أنّ العرض قد اتكأ في تمسرحه على مفهوم (الطاعون) الذي دعا اليه الفرنسي (ارتو) في المسرح وقرينة حين حقق تواصليّة أكيدة ما بينه والمتلقي في ضوء الصدمة الجماليَّة التي أنتجتها المنظومتان الصوتية والحركية بأداءات الممثلين انس عبد الصمد، ومحمد عمر، وصادق عبد الرضا، بتوتراتهم الحركيّة وصراخهم حيث تمكنوا من توزيع النسقين الحركي والصوتي على وفق تراتبيّة ايقاعيّة وميزانسينية مدروسة واشغال الفعل الإيمائي الصامت بنسق صوتي مسجل لعرض انجليزي لمسرحية (في انتظار غودو) والتركيز على كلمة when  بمعنى متى؟ باللغة الانجليزية بسؤال وجودي صارخ يشي بفكرة العرض الفلسفيّة وتمَّ تدمير المركز السينوغرافي للعرض في ضوء تدمير المدينة الكارتونية المنتظرة للمخلص وللطائرات التي تأتي من الخارج وهي قراءة بصرية متفردة.. تلك المدينة المسجون أفرادها والمعطلة عن الفعل من منظور عقائدي فمحركو الطائرات هم علامات ورموز للميثولوجيا الخرافية من خلال ما لبسوه من أردية سوداء تنتمي للموروث الديني وقفص العصافير مفتوح القاع والذي تلبسه إحدى الشخصيات في رأسها أعطت هذه الدلالة مدلولا لسجن العقل وتعطيله وهي نفسها تمارس فعل تنظيف الكتب بالشامبو والمكنسة بدلالة زيف التاريخ الوضعي المدوّن.

وحفلت دخولات بوزو باستثارة حادة للفضاء والشخصيات تارة بالحبل المنقادة إليه وتارة بالنباتات ومجيئها بصندوق منتظر لا يحوي سوى أرانب بيضاء تقضم ما تجد أمامها من خضار، في قراءة دستوبية من دستوبيا لفضاء المدينة السافلة التي لا هم لها سوى الاستهلاك وقضم نبتة الربيع ولا نفع فيها سوى ملء بطونها، جاء التحول الواقعي للعرض بنقل الصورة إلى البيئة المحلية في ضوء الانفتاح على صورة فديوية في خلفية المسرح تعرض لقطات منتقاة للمدينة القذرة والكابية.. صوراً لأحياء غابت عنها الخدمات في بغداد وعلقت على أعمدتها صوراً للمؤلف (بيكيت) على أصوات أغنية تراثية للمطربة زهور حسين بمقام (الدشت) وهي تشدو وجع المدينة وآلامها، كنت وأنا أسير مع الصحب متوجهين في طريقنا إلى المركز الثقافي الفرنسي أتساءل وأفكر مع نفسي كيف سيقدم هذا العرض البصري الصامت الذي يحتاج إلى مسافة جماليّة واضحة وممتدة ما بين العرض والمتلقي لنتبين جمالياته ودلالاته في فضاء صغير كفضاء المركز؟ وهل سيخرج بالقوة والتأثير نفسيهما عندما عرض في مسارح الرافدين والرشيد وغيرها من المسارح الكبيرة؟، وجدت أن العرض وبلا مجاملة قد بقيَ محافظاً على زخمه الجمالي وقوته السمعيّة والبصريّة على الرغم من اختلاف المسارح التي قدم عليها، وهذا يحسب حتما لفريق العمل الذين كانت لهم حلول إخراجيّة ناجعة وضبط جمالي عالٍ وحساب دقيق للمساحة وتأثيرها في العرض ومن ثم التأثير الأكبر على

المتلقي.