ابراهيم العبادي
احتفلت الجمهورية الاسلامية بالذكرى الرابعة والاربعين لانتصار الثورة الاسلامية وتأسيسها لنموذج سياسي فريد، يقوم على توليفة بين نظامين فكريين، هما الاسلام بصيغته الشيعية، والجمهورية بمضمونها الديمقراطي الانتخابي.
خلال 44 عاما عمل النظام الاسلامي على ترسيخ خصوصيته الاسلامية الشيعية، وفقا لهوية وتاريخ وثقافة ايران -المركز، مع تحديث لأساليب التماس الشرعية وفق النماذج المعاصرة، ومنها اسلوب الانتخاب والتمثيل والتوكيل.
لم تنجح ادوات النقد المختلفة في تليين صلابة هذا النظام، وبدا أن معاركه الكبرى مع الخارج (خصوصا ما تعلق بالبرنامج النووي) صارت حجر الزاوية في اختبار قدرة ومتانة سياسات النظام وشعبيته، بعدما تآكلت القدرة الشرائية للناس، والتحق ثلث المواطنين بمن هم تحت خط الفقر بحسب وزارة التعاون والرفاه الاجتماعي.
بمرور الزمن لم يعد النموذج قادرا على احتواء الشكوى والنقد ثم التمرد الموجه ضد بنية النظام السياسية، بسبب غياب الحوار الداخلي ورفض الاستماع للآراء الأخرى، بما فيها القوى التي هي جزء من النظام، لقد استخدم الخط المتشدد أدواته الإعلاميَّة والسياسية ونجح في التغلغل داخل المؤسسات الدستورية لاقصاء المختلفين مع شعاراته المكلفة، عديمة الجدوى، والمأزومة بعقدة الأمن والخوف على وجود النظام، من مؤامرات الخارج وسياساته الناعمة والصلبة.
في عام 2022 ومع اندلاع الاحتجاجات الاخطر والاشد تأثيرا على اساسات النظام، لم يعد ممكنا السيطرة على حركة الاعتراض الخشن واحتواء الاصوات الداعية إلى المراجعة واصلاح النظام من داخله، لتفادي السيناريوهات الاخطر، فقد دعا كثيرون من داخل النظام إلى الاصلاح والتغيير التدريجي، وهو الحل الوحيد للأزمة البنيوية، لأن التحديات الاقتصادية والعقوبات الخارجية المصحوبة بالمشكلات الامنية والمطالبات الشعبية والضغط الامني والتهديد الخارجي، ستقود إلى نتائج كارثية ظهرت مؤشراتها في نوعية القوى، التي شاركت في احتجاجات خريف عام 2022 التي اعقبت موت مهسا اميني في أحد مراكز شرطة الاخلاق.
اللافت أن كثيرين كانوا من رموز الاصوليين المتشددين صاروا من دعاة الاصلاح، قد يكون اشهرهم مرشح الرئاسة ورئيس البرلمان محمد باقر قاليباف والرئيس السابق لمؤسسة الاذاعة والتلفزة مهدي نصيري وسياسيون كبار امثال محمد رضا باهنر وعلي مطهري وعلي لاريجاني، ومن الحقوقيين الكبار محسن برهاني، اما من الاقتصاديين فقد عبر عديدون عن خشيتهم من المستقبل القريب ابرزهم الاكاديمي محسن ريناني فيما كان للاكاديميين حضورٌ مكثف في التحليل والتحذير، بدءاً من علماء الاجتماع والسياسة وانتهاء بالحوزويين وكبار الرموز السياسية امثال الرئيس السابق محمد خاتمي، الذي اصدر رسالة في ذكرى الثورة الرابعة والاربعين، جاءت بمثابة وثيقة فكرية - سياسية ضمّنها رؤيته للخروج من المأزق.
رسالة خاتمي التحذيرية الاصلاحية كانت بمثابة النداء الاخير، لأنها تضمنت أفكارا إصلاحية تمس بنية النظام الحالي وسياسته، وهي لم تعبر عن افكار خاتمي وحده، بل عبرت عن وجهة نظر جميع القوى، التي ما زالت مخلصة لتراث ومبادئ الثورة الاسلامية، رسالة خاتمي الشهيرة، دعت إلى إصلاح دستوري مؤسساتي يتناول جوهر وروح الجمهورية (الحريات، التعددية الانتخابات الحرة، الشباب والأجيال الجديدة)، وعودة عملية إلى نسخة مخففة من ولاية الفقيه كما عكستها مناقشات العلماء والخبراء، الذين صاغوا الدستور وثبتوا المادة 110 فيه، المتعلقة بصلاحيات ودور الفقيه الحاكم، حتى لا يكون فوق الدستور.
رسالة خاتمي التي انتشرت بسرعة وذاع صيتها، دعت إلى اصلاح وتغيير مجلس حماية الدستور، الذي تحول إلى مركز اقصائي للقوى السياسية، والى تنظيم وتجديد فاعلية مجمع تشخيص مصلحة النظام، ليضم قوى مختلفة وطيفا واسعا، وتفعيل مجلس الخبراء، الذي ينتخب القائد ويراقب سياساته وأهليته، كما شددت على منع القوات المسلحة من التدخل في الشان السياسي والتأثير في السياسة الخارجية (لنتذكر شكوى الوزير محمد جواد ظريف من ذلك )، مضافا إلى تعديل شامل في السياسات الداخلية والخارجية لتغيير صورة المشهد والتراجع عن المنهجية السائدة لاعادة الثقة بالنظام.
النظام الاسلامي في إيران على مفترق طرق، خاصة وهو على اعتاب البحث عن خليفة للقائد تحسبا للطوارئ والاحتمالات السيئة، وامام ايران فرصة مراجعة جادة إن استُثمرت ستنهي على الارجح سيطرة جناح متشدد قصير النظر، لم تعد سياساته تحظ باي مقبولية، سوى لدى انصاره في الداخل وامتداداته في الخارج، أو المضي بالسياسات الراهنة في مراهنة ومجازفة خطيرة لا يدافع عنها غير طيف من التقليديين من ذوي النزعات المحافظة وبذرائع دوغماتية.
المثير أن من يخاف من هذه المراجعة المطلوبة، هم المستفيدون من السياسة المتصلبة الراهنة في داخل ايران وخارجها، ولذلك صاروا يرصدون أي دعوة لفكر أصيل لا يرغبون به ويرونه خطرا ينبغي مواجهته، حتى لو كان بمستوى الدعوة إلى الاستفادة من تراث وفكر المشروطة وتنظيرات فقيهها الأبرز الميرزا النائيني، وما انتجته مدرسة النجف الاشرف واضافات المرجع السيستاني.