زهير كاظم عبود
البصرة التي نتحدث عنها مدينة كانت زاهرة وحاضرة بين المدن، و تزهو بمعالمها واناقتها ونظافتها، مدينة تتنافس مع اجمل بلدان المنطقة، البصرة التي لا يمكن لوصف أن يجسد ما تحمله الذاكرة من معاني الإنسانية والطيب عنها وعن اهلها، فقد امتزج فيها الحلم مع المتعة، والمروءة مع التاريخ، والنخيل مع الحلاوة، واكتسبت صفات وقيم طيبة توارثتها القبائل ورعتها ألأديان المتنوعة فيها فزادتها متانة ورصانة، لا غريب فيها ولا شريد، قلوب أهلها بيوتهم وملاذا آمنا لكل من يطلبه
ويشعر الإنسان حين يخترق شوارعها العتيقة أنه يختزل الزمن ويعبر صفحات التاريخ يتجول بين سطورها، يتجول بين شارع أبو الأسود الدؤلي وساحة أم البروم ورمال الزبير وبقايا الأثل، ويعبر بين تخوم الأبلة وآثار معركة الجمل، نهر العشار حيث صاحب الزنج حط رحاله واغترف من مياهه بيديه، نقرات الدفوف الشعبية مصحوبة بالصناجات والعرق الناضح من الأجساد في بيوت محلاتها القديمة، أو من الكلمات الطيبة المعجونة بالرقة والعذوبة المتفردة المنسابة مثل موجات نهرها، تعلم أهلها البساطة والسماحة والكرم وحسن المعشر منذ الأزل، إذ يرضعها البصري منذ الولادة، فتكون تلك الصفات معلما من معالم البصرة.
إنها البصرة التي كانت ثغر العراق الباسم ولم تعد كما كانت. غير أن البصرة ولسوء حظها أن تكون مدينة مطلة على البحر تلفحها نسماته، وشاسعة تحادد دول عدة، وأماكن تدفن قصص التاريخ العربي والإسلامي بين ضلوعها، ومنتجة تفور تحت ترابها مكامن النفط الخام، وترسو في موانيها مئات السفن الأجنبية وسفائن التجار الصغار المتواضعة وزوارقهم الجميلة، التي تجيء ومعها بضائع التجار والركاب والأجانب الذين أطلقوا عليها فينيسا الشرق كما يقولون.
البصرة كانت ولم تزل تشرب ماء أجاجا، وتكثر فيها جموع الفقراء والذين لا يملكون غير لقمة يومهم، البصرة مدينة ليست كمدن الشرق، فهي تبتسم لك رغم كل ويلاتها فتكتم حزنها وألمها، وتبعث في أوصالك الدفء رغم كل ما تشعر به من زمهرير الحكومات، التي تناستها وصمت آذانها وأغمضت عيونها عنها.
ورحم الله عبد الكريم قاسم وطيب الذكر مزهر الشاوي مدير الموانئ العام، حينما التفتا إلى قضية مهمة لم تزل شاخصة حتى اليوم، حين قررت الحكومة بناء دور للفقراء في منطقة الموانئ، متواضعة وضيقة ولكنها تضم أسر الكادحين وصغار العمال والموظفين في المعقل وخمسة ميل والأبلة والميناء، الفقراء الأكثر انتشارا وعطاءً ووجودا في تلك البصرة الجميلة، صارت لهم سقوف وملاذات، وتم تمليكها لهم مقابل أقساط مريحة وبسيطة رمزية، صارت أحياء كاملة منتظمة وجميلة تسكنها تلك المجموعات البشرية حيث أمنت لهم سقفا يحميها، وترك مزهر الشاوي من بعده سفرا خالدا في الإنجاز والنزاهة من خلال مؤسسة الموانئ، التي أدارها بجدارة وبنزاهة أيضا نفتقدها هذه ألأيام، وأكثر من نصف قرن مرت دون أن يتهمه احد بسرقة النفط أو إيرادات الموانئ أو اختلاس المال العام، رحل عبد الكريم قاسم ومزهر الشاوي، وبقيت آثار أعمالهم منقوشة على قلوب تلك الناس وعلى جدران تلك البيوت المتواضعة، نقشا أسميهما بحروف كبيرة على صفحات تاريخ العراق الحديث، وتركا أفكارهما ومشاريعهما الإنسانية على الأرض، امتدادا من حدائق المعقل والملعب الرياضي مرورا بحدائق الأندلس والجنينة، وأرصفة الموانئ ورافعاتها العملاقة وامتصاص البطالة ومرافق الموانئ الخدمية ومطاعمها ونواديها وأماكنها الاجتماعية، ومطارها المتواضع وفندقها المطل على الشط وجزيرة السندباد وحدائق الخورة والكورنيش وشوارعها، التي تزهو، وصولا إلى بيوت الفقراء ومجمعات السكن.
وبقيت البصرة تعطي ولا تأخذ، تتباهى بكرمها وتكابر أولادها على جوعها، وتشرب الماء الممجوج قسرا دون أن تشتكي ولمن تشتكي وحكامها طرشان لا يعون ما يجري عليها ؟ وتتراجع الخدمات وتتوقف كل مشاريع السكن التي كانت توفر سقوف للفقراء وعمل لتأمين حياتهم، وتنتشر البطالة وتضيع الفرص وتتكاثر حاجة الناس، ويتناسل الفقراء في أحياء شهيرة تعج بالفقراء والكادحين، وتتحول إلى ساحة عمليات تقودها العشائر المدججة بالسلاح.
البصرة التي كانت تعج بالنخيل والبساتين الزاهية تستورد اليوم خضرواتها من الجارة إيران ولم ترفع حتى اليوم جثامين النخيل المذبوح بسيف الطاغية،، وصارت تستورد التمر من دول
الجوار.
البصرة التي يطرز وجهها الجميل نهر العشار، لم يزل مطمورا بائسا تتجمع فيه الأكياس الفارغة والمخلفات التي تلقيها الناس متوقفا عن الجريان، لا أثر للمد والجزر فيه، ولم يعد جميلا يتغنى به الشعراء.
البصرة التي تنام على نهر من النفط ويلتقي عندها الفرات ودجلة، تتحسر حتى اليوم على شط العرب الذي تنتشر فيه
الملوحة.
لم يعد لنا أمل أن نحلم ببصرة المستقبل، فقد انتشر الجدري في وجهها الجميل دون علاج، وانتشرت البثور على تخومها وحدودها، لم يعد لنا أن نحلم ببندقية الشرق ورئة العراق على الخليج، ولم يعد لنا أن نحلم بالبصرة تزهو بالناس على اختلاف مللهم وجنسياتهم وأديانهم وألوانهم، ولم يعد لنا أن نحلم بالبصرة التي تضاهي مدن الخليج العامرة، زادتها سنواتها الأخيرة حزنا وعذابا، ولم تعد تتسع مقابرها لجثث المذبوحين والمقتولين غدرا، لم تعد للزهور مكانا في حدائق الأندلس، وعادت البصرة بحاجة ماسة للماء الصالح للشرب، وعادت مرة أخرى تعطي ولا تأخذ، لا يمكن لأي شكل من أشكال أنظمة الحكم أن يعيد لها رونقها وضحكاتها وسعة صدرها وفيّ نخيلها، ولم تعد حلاوة نهر خوز لها طعم طيب ولذيذ، البصرة تريد حكاما يمتلكون ضمائر نقية وناصعة من أهلها وليس على أهلها، تريد أن يكون المسؤول خادما لها وليس سلطانا عليها، فهل من صحوة بعد هذا السبات الطويل؟ خصوصا بعد تلك البادرة الجميلة التي جعلها تعانق اخوتها من أبناء الخليج
العربي.