الرقص في الحضارات

ثقافة 2023/02/21
...

   ناجح المعموري

كان الملك داود منقاداً إلى الحكمة العشتارية ووظائفها الدينيّة وحوار ابنه ميكال معه يشير إلى هذا المجال. حكمته التي أسست علاقته مع الأم الكبرى وكاهناتها ومارس طقوسها من دون خجل باعتباره ملكاً مفوضاً من الإله اليهودي/ يهوه. وكما قال فراس السواح في لغز عشتار ص253، كانت حكمة عشتار/ عشيرات هي دعوتها للجسد كي يدخل محيط اللعب الحر، إلى الرقص الذي يجعل الجسد موضوعاً لنفسه، ويعكس طاقته نحو نفسها، محولا الحركة المادية إلى نشوة روحيَّة ووجد صوفي. فالإنسان في الديانة العشتارية لا يعرف الصلاة، بل يعرف الرقص. وفي المناسبات الداعية للصلاة في الديانة الشمسيَّة، نجد الإنسان العشتاري يرقص. وهو في رقصه لا يعبد إلهاً بعيداً منفصلا، بل يعيش إلهه ويتلمسه في أعماق نفسه.

وفي قمة النشوة عندما يتحقق للراقص الانفصال التام عن مبدأ الواقع، ويشعر أن حركته تتلاشى عند نقطة ثابتة في مركز ذاته. 

والرقص تنظيم للفوضى الجسديّة بقانون. 

ومادام القانون لا يأتي من فراغ، لأنّه يعبّر عن حاجة، فهو محكوم بمصدرين: مصدر الذات ومصدر البيئة. 

والرقص يرتبط بماهية الإنسان المتشكلة بعوامل ثقافته ومعتقده ورؤيته القومية وعلاقته بالفن وطبيعة نشوء عاداته السلوكية الخاصة به والعامة في مجتمعه وبها يصير الرقص وسيلة تعبير.

 وللرقص علاقة وثيقة بالديانات القديمة ولايمكن النظر لطقوس التضحية وتقديم القرابين بمعزل عن الرقص، لأنّه المبتدأ للحظة التراتيل ومكمل لها.

إنَّ لغة الجسد عفويَّة، بل هي قبل كل شيء طبيعيَّة، وهي لغة تكشف عن انفعالات وعن ردود الفعل البشري تجاه الظواهر والأحداث كشفاً متفاوت المستوى من حيث الوضوح والوعي واللاوعي، وليست تلك اللغة، ذلك الكشف الواعي واللاواعي والعفوي والطبيعي مبعثرة أو جزيئات مجانية، فتعبيرات الجسد تؤخذ في بنى منتظمة ومنظمة وداخل أنساق، أو هي تشكل وحدات مترابطة عضويَّة حيَّة وذات دلالات عامة.

يعني هذا أن دلالات للحركات الجسد تفصح عمّا هو نفساني وتمتلك كل الخصائص التي يمتلكها الكلام اللفظي أو اللغة بالكلام أو في الكلام الجسدي «الحركات/ الاشارات/ الايماءات» يقوم بوظيفة التعبير وينقل رسائل الفرد ويتأسس على علامات، ويختلف الكلام الجسدي بحسب مستوى الأفراد الثقافي والاجتماعي، ويتمتع بخصوصيَّات محليَّة وبأخرى نلقاها في مختلف الحضارات.

إنَّ الإنسان يتكلم بجسده مثلما يتكلم بلسانه وأن لحركات الجسد رموزاً مثلما يكون للألفاظ أيضاً رموز.

وبما أنّ الرقص وسيلة تعبير – كما قال د. ريكان ابراهيم، فإنه ينطوي على رسائل وشفرات، يرسلها الجسد بواسطة رموز وحركات لأعضاء فيه، وهذه الاشارات وسيلة للتفاهم والتعبير عن الحاجات الإنسانيّة ورغباته المكبوتة والمعبر عنها بتلك الحركات، لهذا حصل تباين في رقص المناسبات والمواسم، لأنَّ للظرف رموزه المتعارف عليها بالتواتر، ورقص الحزن مختلف عن مثيله في الأفراح والأعياد.

إنَّ الصفات الجنسيّة/ الجسديّة والسلوكيّة هي عبارة عن علاقات مهمة وشاملة للانتماء للجنس سواء على مستوى الثقافة أم على مستوى الوعي الشائع. 

ويعد الجنس بمعناه الخاص والعام جزءاً لا يتجزأ من التراث الثقافي الرمزي للبشريّة. 

وعلى الرغم من حصول تغيّر في وظيفة الرقص الأموميّة/ الأولى، ظلت له وظائف عديدة مرتبطة بالسحر/ الطقوس الدينيّة/ والاحتفالات، وبدأ الخطاب الذكوري يتعامل معه عبر وظائفه المشار لها، وسعى من أجل تذويب ملامحه الأولى، لكن الطابع الأول ظل باقياً، ومتناظراً مع الفعاليات المرتبطة بالأعياد والمناسبات الاحتفالية ذات الطابع الزراعي. وخصوصاً ماله علاقة بمفهوم الخصوبة.

إنَّ هارمونيّة “تناسق” العمل الجنسي هي هارمونيّة “تناسق” موسيقيّة، لأنَّ العمل الجنسي عند الفرد نوع من أنواع بطولة الذكورة.

 ورقصات الملك داود في ظاهرها دينيّة، أمام الإله يهوه لكنها ذات عناصر جنسيَّة، ولذا ارتبطت بالعري، وهو حالة ملازمة لطقوس القصف الربيعيّة الخاصة بالإلهين ديونيسيس وآتيس.

وعرفت عبادة اوزيريس طقس العزف والضرب على الآلات الموسيقيَّة والرقص، وقد تركت الحضارة المصريّة إشارات فنيّة على ذلك، وتصور النقوش الجداريّة على المعابد المصريّة من كل العصور الملوك وهم يرقصون أمام اوزيريس وغيره الالهة وكان الاله اوزيريس – حسب رواية ديودور الصقلي – حسب شعائر عبادته يبتهج بالموسيقى والرقص وأن معابده كانت تضم حاشية من الموسيقيين والمنشدين والمنشدات العذارى، كما أن الكثير من تعاليم أوزيريس للمصريين كانت تلقن على شكل أناشيد وترانيم دينيّة، أو كما يسميها العهد القديم مزامير. 

إنَّ طقس العزف والرقص المصري مقترن بعبادة الاله اوزيريس، الاله المعني بالخصوبة والانبعاث وتجدد الحياة ولهذا الاله وظائف كثيرة، مرتبطة كلها بمنظومة الخصب وعقائد الحياة، وأن لم تعرف مصر طقوس الزواج الإلهي المقدس.

وحازت عليها الديانة اليهودية، ضمن ما حازت عليه من خصائص الاله اوزيريس واسقطتها على الاله يهوه.

ودمجت مع طقوس الجنس الموجودة على نطاق واسع في كنعان لأنّ الاله اليهودي حاول سرقة عنصر الخصب من آلهة الشرق. 

هذا العنصر الذي كان حلماً للاقوام التي عاشت زمناً على هامش الحضارة الكنعانية. واستطاعت البنية الذهنية التوراتية الصاق الموسيقى والرقص بالملك داود، لأنّه كان مولعاً بالموسيقى منذ صباه، وكان يتسلل إلى قصر الملك شاول في لحظات انهياره النفسي ليعزف له من أجل الراحة والاستقرار وحتى هذا، يبدو واحداً من الأكاذيب الكثيرة التي نقشت في العهد القديم.

 وأمام هذا التاريخ الطويل من الحروب والمجون تعطل الملك داود ولم يقوِ على ممارسة طقوسه الجنسيّة التي تبقيه ملكاً. لأنّ الملوكيّة لا تستمر إلا بإقامة الاتصال الجنسي وذلك لصلته مع المنظومة الثقافيّة الخاصة بعقائد الخصوبة. وما دام الملك غير قادر على ذلك، فيجب صعود الوريث ملكاً بديلاً: “وشاخ الملك داود في السن وكانوا يكثرون عليه الاغطية فلا يدفأ. فقال له رجال حاشيته: دعنا نبحث لسيدنا عن فتاة عذراء تخدمه وتؤانسه وبين ذراعيه تنام فيدفأ فبحثوا عن فتاة جميلة من جميع أرض اسرائيل، فوجدوا ابيشج الشونمية فجاؤوا بها إليه. وكانت الفتاة رائعة الجمال، فكانت تؤانسه وتخدمه، لكنه لم ينم معها”.                                                      

توقف تماماً الملك داود عن أداء طقوسه المعتادة في الزواج الملكي/ الالهي. وخسارة الملك لهذه القدرة يعني فقدانه للعرش، ووجوب مغادرته واحلال الوريث/ البديل محله. ووجد سليمان فرصته المؤاتية ليصعد ملكاً بعدما ازاح المنافسين له وبطرق مختلفة وصار سايمان ابن “تبشبع” زوجة اوريا الحثّي ملكاً، ولم يختلف سليمان عن ابيه وكانه مبلغ برسالة وعليه ان يؤديها كاملة.

 ويكشف لنا هذا المعتقد بتحولاته الداخلية الدقيقة والمتمظهرة بالعلاقات الجنسية الاهمية القصوى للطاقة الرجولية/ الخلاقة رمزياً وحياتياً. في جسد الملك، وتلك واحدة من الخصائص الفعالة في الديانة المصريّة القديمة التي نظرت إلى الإنسان الجنسي على أنّه قيمة اجتماعية/ اقتصادية خلاقة “خيرة” واعتبار العقم الجنسي قيمة اجتماعية/ اقتصادية تدميريّة “شريرة”. 

إنَّ لوحة متعددة الألوان ومفعمة بالآفاق تبرز أمامنا على هذا النحو، مقدمة نمطاً مهماً من أنماط الفكر العربي القديم: فالاقتصاد والاجتماع والسياسة تظهر، مجتمعة ومنفردة، من حيث هي جنس، والجنس إنساناً، كان أم نباتاً أم حيواناً، يظهر اقتصاداً واجتماعاً وسياسة.