النقد الثقافي.. حدود النظريَّة وأطر الفهم

ثقافة 2023/02/22
...

صفاء ذياب


 أثار الدكتور عقيل عبد الحسين موضوعاً في غاية الأهميَّة، في التحقيق الذي أجرته صحيفتنا؛ الصباح، حول النقاد الأكاديميين الجدد، الذين يتخبّطون في فهم المصطلحات والمناهج النقدية الحديثة. أشار عبد الحسين في معرض جوابه إلى أنَّ غلبة الدراسات الثقافية على النقد الحالي، سهّل على كتبة النقد ركوب موجة النقد والكتابة النقدية؛ فنحن في زمن الدراسات الثقافية، ولو كنَّا، ما زلنا في زمن البنيوية أو السياقية، لما جرؤ كثير من الكتبة على أن يكتبوا النقد، فمن المعلوم أنَّ الدراسة البنيوية تحتاج إلى عدّة منهجية، وجهاز اصطلاحيّ مُتقدِّم، ولغة واصفة علمية.

 ومعروف، أيضاً، أنَّ النقد السياقي يحتاج إلى ناقد على درجة عالية من الثقافة، وذي مرجعية فكرية وفلسفية، حتَّى أنَّ أغلب النقّاد السياقيين يساريّون أو مفكّرون، مثل محمود أمين العالم وحسين مروّة. أمَّا الدراسة الثقافية، فلعلّ طبيعتها المُنفتحة على علوم مجاورة مثل التاريخ والإنثربولوجيا وعلم النفس والاجتماع، وتغليبها المضمون على الشكل، واعتمادها على التأويل الذي يُلحِق ظاهر العمل الأدبيّ بما يمثّله من أشكال الممارسات الاجتماعية، وأشكال التدرّج الاجتماعيّ، مثل العرق والنوع والطبقة، كما يقول النقّاد الثقافيون، دعت الكتبة، أو متواضعي الإمكانات الفكرية والعلمية، إلى استسهالها وركوب موجتها، مستفيدين من اتساع مساحات النشر التي وفّرتها كثرة الصحف والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعيّ.

وهذا ما دعا، حسب كلام عبد الحسين، الكثير من النقّاد، العراقيين والعرب أيضاً، إلى البحث بمناهج هجينة وغير واضحة المعالم، تحت مسمى النقد الثقافي، ومن ثمَّ كانت الدراسات الثقافية سلّماً لاستسهال، على الرغم من صرامتها المنهجية، لكن انفتاحها على المناهج الأخرى، جعل الكثير من النقّاد لا يعرفون ماهية هذه الدراسات، ومن ثمَّ كان النقد الثقافي باباً واسعاً لكتاب دراسات خالية من المنهج المحدد، بل كان هجيناً من عدّة مناهج، ما يؤكّد عدم فهم هؤلاء الدارسين لخصوصية النقد الثقافي.

 

إشكالية الفهم

لا يهمّنا كثيراً التعريف بالنقد الثقافي هنا، لكن الكثيرين بدؤوا يؤولون كلَّ ما يُكتب في المناهج السياقية، على أنَّه نقد ثقافي، لسبب واضح، وهو أنَّ النقد الثقافي استفاد بشكل أو بآخر من هذه المناهج... فهناك من يدّعي ريادة العراق بالنقد الثقافي، مستنداً إلى كتاب علي الوردي (أسطورة الأدب الرفيع)، هذا الكتاب الذي جمع فيه علي الوردي عدّة دراسات متفرّقة، لا يجمعها منهج معيّن، لكن بما أنَّ الوردي عالم اجتماع، فقد حاول تطبيق نظريات علم الاجتماع الكلاسيكية على الشعر العربي، من جهة، وعلى علاقة الشاعر بالسلطة، وبالتالي فلم ينظّر الوردي لنقد ثقافي، ولم يُقحم نفسه في مناهج بعيدة عنه تخصّصاً وفهماً، فقد أراد أن يعيد النظر بعلاقة الشاعر بالسلطة من خلال مفاهيم علم الاجتماع الكلاسيكية حينها.

غير أنَّ من يدّعي أنَّ الوردي رائدٌ للنقد الثقافي نابع من قصر فهمه بعلاقة النقد الثقافي بعلم الاجتماع، ومن ثمَّ أراد أن يسلّط الضوء على هذا العلم، من دون أن يُدرك أنَّ القصدية- حسب مقولة الجاحظ- هي ما يُحدّد هذا المنهج من ذاك.. مثلما ادعى الكثير من اللغويين مرجعية الدراسات اللسانية الحديثة إلى الجرجاني وغيره، متناسين أنَّ الأطر التي قدّمها الجرجاني تختلف اختلافاً واضحاً مع الأطر التي قدّم فيها فرديناند دي سوسير دراساته اللسانية، ومن ثمَّ رومان ياكوبسن، وغيرهما من المؤسّسين لعلوم اللسانيات والسيمياء الحديثة.

 

كيف نفهم النقد الثقافي؟

يبيّن الكثير من الباحثين حدود النقد الثقافي موضّحين أنّه قد نشأ ليهتمّ بالأنساق الثقافية المضمرة، وفضح الأيديولوجيات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المخبوءة في الخطابات الأدبية، ليهتمَّ بكلّ ما يحيط بالنصّ، ويربطه بسياقه التاريخي والاجتماعي والجغرافي، مستفيداً من مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية (علم التاريخ، علم النفس، علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، الفلسفة..).

وتشير الدكتورة ملحة بنت معلث بن رشاد السحيمي في دراسة لها، إلى أنَّ النقد الثقافي؛ هو الذي يدرس النص لا من الناحية الجمالية، بل من حيث علاقته بالأيديولوجيات، والمؤثّرات التاريخية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية، ويقوم بالكشف عنها، وتحليلها بعد عملية التشريح النصيَّة.

فضلاً عن اهتمامه بموضوعات تتعلّق بالسلطة، وتهدف من ذلك إلى اختيار مدى تأثير تلك العلاقات، في شكل الممارسات الثقافية. ومن ثمَّ فهو وهو النقد، الذي يستكشف الجماليات الثقافية في الخطاب، بعيداً عن حدود الدراسات النصيَّة، التي تستكشف جماليات الكلمة، داخل إطار النص المغلق. وبالتالي يدرس الأنساق الثقافية في الخطاب، باعتباره لا يصدر عن فراغ، بل هو متفاعل مع بيئته وتاريخه وثقافته، بمعناها الأعم. ومن هنا يدرس النقد الثقافي كلّ خطاب، بغضِّ النظر عن كونه شعراً، أو كلاماً شعبياً، أو غير ذلك، فيقوم بتحليله؛ لكشف أنظمته العقلية، وغير العقلية، بتعقيداتها وتعارضاتها.

وتخلص السحيمي إلى أنَّ النقد الثقافي يعني؛ التوسّع في مجالات الاهتمام والتحليل للأنساق، حتَّى غدا جزءاً من كلِّ “الدراسات الثقافية”، بما تعنيه الثقافة التي توجز بأنَّها: (دائرة نشاط الإنسان المتحقّقة على الأرض فعلاً مستقراً، والراسخة في من يدبُّ فوقها من البشر أثراً باقياً).

ومن هذا المنطلق، يدرس النقد الثقافي عدداً من الأنساق، تختلف باختلاف الأسس التي يستند إليها الباحث، ومرجعياته الخاصة، وهي: النسق المضمر، الدلالة النسقية، الوظيفة النسقية، الجملة الثقافية، المجاز الكلي، التورية الثقافية، المؤلف المزدوج.

هذه الأنساق تحاول أن تربط بين النقد من جهة، والمؤلّف من جهة أخرى، والمحيط الذي أنتج فيه النص من جهة ثالثة. غير أنَّ هذه الأنساق تستند في مرجعياتها إلى المناهج النقدية السياقية، لكن بما يخدم هذا النقد، ويسحب تلك المناهج من خانة النقد الأدبي، إلى الرؤى الثقافية.

 

منهجية متكاملة

استناد الدراسات الثقافية إلى عدد من المناهج السياقية، حذت بالبعض إلى العمل على أيِّ منهج يراه، من دون أن يعرفوا ما إذا كان ما يقدّمونه نقداً ثقافياً أم لا، وعلى الرغم من أنَّ النقد الثقافي جزء من الدراسات الثقافية، فإنَّ أغلب الباحثين لم يدركوا كُنه هذه الدراسات، لأنَّ مرجعياتها مزيج بين الفلسفي والأيديولوجي، ابتداءً من الفلسفة الماركسية، ومن ثمَّ المادية التاريخية، مروراً بأعمال ستيورات هول، الذي قدّم الثقافية من وجهة نظر بريطانية، لتظهر في ما بعد دراسات خاصة بوجهة النظر الأميركية. وهكذا تعددت مرجعيات الدراسات الثقافية حسب المنابع التي خرجت منها.

يشير الدكتور إدريس الخضراوي إلى أنَّ الدراسات الثقافية تستند إلى خلفية منهجية تكاملية عابرة للتخصّصات، وهذا ما جعلها في زمن الأزمة التي تعيشها المناهج النقدية المتمركزة حول النص، تحظى بموقع لافت للنظر بحكم ما أحدثته، من خلال جهود الباحثين المنضوين في إطارها، من تحوّل في حقل نظرية الأدب تَمثّل في بناء مقاربة نقدية مختلفة تستند إلى فرضيات جديدة تعدُّ الأدب ممارسة ثقافية دالّة، يتطلّب بناء المعرفة بها قدرة على فهم الأدب في طبيعته المركّبة، وفي تفاعله المعقّد مع المؤسسات الاجتماعية والقوى الخطابية المتنافسة. هذا ما يقتضي في نظر الخضراوي تشييد فهم جديد للأدب يتجاوز حدود التوظيف الجمالي للغة، إلى استحضار المردود الثقافي الذي يشمل حقولاً معرفية عديدة. فإلى جانب الاهتمام بالأدب كخطاب لغوي جمالي، تبرز أهمية الوعي بالسياق الثقافي الواسع الذي يتحقّق فيه. وذلك من أجل إنارته وتسليط ما يكفي من الضوء عليه حتى يكشف عن الأنساق المضمرة فيه.

في حين يرى الناقد عمر الرداد أنَّ النقد الثقافي يطرح جملة من الإشكاليات التي تتمظهر بأشكال وصور غائرة في عمق الوجدان الجمعي للشعوب والمجتمعات أكثر من كونه يطرح حلولاً، وهذا ربَّما ما يجعله يبدو أنّه تناقض بين كونه منظومة قيم ما بعد الحداثة التي تشكّل مرجعيات النقد الثقافي، أو تؤكّد على مقولة سقوط الأفكار الكبرى، والبحث عن تلك الأفكار في النصوص والخطابات، ويبدو أنَّ همّ النقد الثقافي هو كشف وتعرية وتفكيك تلك الأفكار من دون تقديم بدائل لها؛ إذ إنَّ تقديم البدائل ليس مهمّة النقد، ولا صنيعته في الأصل.

ومن بين الإشكاليات التي طرحها هذا النقد تلك الحالة المراد لها أن تكون مرجعية في دراسة النصوص وتحليلها، بقصد تذويب هويّة النصوص الأدبية الجمالية عبر التركيز على ما وراءها من أنساق مضمرة تتساوى في الخطاب الأدبي وغير الأدبي، فقد دخلت أدوات المعارف والعلوم الإنسانية ساحة التقييم والنقد لتلك النصوص، وهو ما يؤكّد مقولات النظرة المتعالية للأدباء والنقد الأدبي الكلاسيكي والتزامهم بالقوالب الجامدة والمعلبة والمفاهيم التقليدية في التعامل مع النصوص، واتهامهم النقد الثقافي بالاهتمام بالأدب والنصوص الأكثر رداءة لكتّاب مغمورين، على حساب نصوص إبداعية لكتّاب مشهورين ومعروفين!

ومثلما يقال في المناهج النصّية، لاسيّما البنيوية، أنَّ هناك بنيويات لا بنيوية واحدة، بحسب مرجعيات الناقد البنيوي، فإنَّ هناك نقوداً ثقافية لا تُحصى، بحسب هذه المرجعيات، غير أنَّ هناك أسساً لا يمكن الحياد عنها، ذكرنا بعضاً منها، وهناك حدود أخرى كثيرة على الناقد فهمها وتقديمها بطرائق مختلفة.