صناعة التجهيل

ثقافة 2023/02/22
...

حازم رعد 

أجد من المناسب  أن نستهل مقالتنا هذه بقول لتشارلز ديكنز الذي يلخص فيه فداحة المآلات التي تؤدي إليها عمليات التجهيل وتزييف الواقع وحرف الحقيقة عن مسارها إذ يقول [ نسمع أحياناً الكلام عن دعاوى التعويض عن الأضرار ضد الطبيب غير الكفء الذي شوَّه أحد الأعضاء بدلاً من شفائه ، ولكن ماذا يقال عن مئات آلاف العقول التي شوَّهتها إلى الأبد الحماقات الحقيرة التي ادعت تكوينها؟! ] تختلف الصناعات فيما بينها كما هو معلوم من ناحية “القيمة ، والنوع ، والفائدة” فمنها ما يعود على الإنسان بالنفع والإفادة ، ومنها عكس ذلك يكون الضرر فيها أكثر حيِّزاً ومساحة وهذه الأخيرة تعكس طبيعة الصنعة والصانع لهذا اللون من الصناعات الإنسانية ، ونحن الآن بصدد الكتابة باختصار شديد عن صناعة غاية في الأهمية والخطورة في ذات الوقت ، فهي لا تقتصر على إلحاق الضرر في حالة واحد قد تطاله بصورة غير مقصودة أو لعدم العلم بشكله البسيط ، وإنما نحن بصدد قتل معنوي جماعي لآلاف من العقول من خلال بث الزيف وترسيخه فيها وتحريف طريقة تلقِّيها للمعلومة وتغيير زوايا نظرها للواقع بما يخدم مصالح أولئك القائمين على هكذا مشروعات لا إنسانية ، نحن بأزاء عملية تدجين للمجتمع عن سابق عمد وليس بصورة عفوية كما قد يُظن أول الأمر ، ومحاولة الارتكاس به في رداءات اللادراية وعدم المعرفة والاستقبال المشوَّه للمفاهيم والأفكار ، تعمد عليه تلكم الفكرويات “سرديات كبرى منغلقة على ذاتها تحتكر الحقيقة لنفسها وتفرض وصايتها على الآخرين وتُقصي كل من ينفذ الوعي إلى فاهمته لأنه يشكل النموذج المتمرد على سياسة التجهيل وتملك النفوذ من ورائها” فالتجهيل في جوهره ممارسة اجتماعية تعمل على تعطيل العقل وطمس معالم التفكير فيه ليكون الإنسان فاقداً للرأي والتحليل والنقد وليس الأمر مقتصراً على ذلك اذن ، هنا أصبحت المعرفة نفسها تتحول إلى أداة لإنتاج الوهم وتفريخ اللا معقول كما يقول زهير الخويلدي ، ويمكن على كل حال أن يقسم الجهل بحسب المتابعات والملاحظة إلى أقسام ، -جهل سببه الإنسان نفسه وهو الجهل الذاتي و يكون باختيار الإنسان نفسه وهذا اللون قد يكون جهلاً بسيطاً كما أوضحنا وقد يكون جهلاً مزدوجاً كما يسميه إفلاطون بمعنى أن الجاهل يظن نفسه عالماً ويفهم محتوى الواقع والطريق التي يتحرك فيها وكيف تتم عملية تحريك الأشياء والأحداث فهذا جهل مزدوج وهو حالة جد خطرة ولكنها ليست بفضاعة النوع الذي نحن بصدد الحديث عنه كمنتج وصناعة وهذا النوع هو جهل مفروض على الإنسان وهو التجهيل وهو سياسة متبعة لتعطيل العقل ، وما تجدر الإشارة إليه أنه في عام 1992 تم العمل على ابتكار صناعة جديدة يطلق عليه صراحة علم الجهل أو ما يسمى “الاكنوتولوجيا” وهذه الصناعة لها حدان: الأول: حد إيجابي توقفنا على مواطن الجهل والمناشئ التي يبرز عنها وكيفية مواجهتها والثاني: يعلم كيفية صناعة الجهل كقوة تسيطر على العقول وتديرها بطريقة تستخفها والذي ابتكر هذا المصطلح هو روبرت بروكتر والجهل هنا ليس انعدام المعرفة فمن الممكن الاطلاع والتعرف على الأشياء وكشفها بالتعلم وبالتالي يخرج الإنسان من حد الجهل وإنما المقصود من الجهل أو التجهيل منتج يتم تصنيعه وتوزيعه لأهداف خاصة سياسية وغيرها من خلال إدارات معينة لعل أهمها العلاقات العامة في إدارات الدول الكبرى وكذلك اللوبيات جماعات الضغط والقوى الناعمة داخل المنظومات السياسية والدولية أو من خلال ستراتيجيات التضليل ، إن مصطلح علم الجهل فيه تجويز كبير فضلاً عن القول بكونه أصبح مفهوماً إذ الجهل ليس علماً أساساً لأن عدم المعرفة وعدمها هو إنها ليست شيئاً موجوداً حتى يشار إليه ولكن قد يقال بإمكانية ذلك من خلال افتراض مفاده أن الجهل علم بمعنى القاعدة القائلة عدم العلم “الجهل” ليس دليلاً على عدم الوجود فهي جهل نسبي شخصي وليس عاماً والجهل كما يعرفه الجرجاني هو { اعتقاد الشيء على خلاف ماهو عليه وهو ليس معدوماً وإنما شيء في الذهن } إذن هذا الجهل الذي هو عدم ملكة العلم واضح ولا يحتمل تأويلاً وهو بسيط صورته حاضرة في الذهن على إنه عدم العلم بالشيء أو اعتقاد خلاف الواقع ، وآخر لا فإنه يمكن التلويح به لتلك العملية المعرفية “النظر” التي تبدأ بوضع اليد على أساس المشكلة للكشف عن نوعها ومنشئها وهي مدار الجهل للتهيئة للكشف عنها وهذا ما يمكن مسامحةً تسميته بعلم الجهل باعتباره مقدمة وطريقاً موصلاً للعلم والمعرفة.