الثقافة السامّة.. متطفلون بلا مواهب

ثقافة 2023/02/22
...

موج يوسف

إنَّ الثقافةَ مُصطلحٌ زئبقي لا ثبات بمفهومه، ولا استقرار بمضمونه، وكلّما حاولنا تحديده بتعريف محدَّد هرب منا، لكني هنا لست معنيَّة بتعريف الثقافة ولا ماهيتها، وإنما معنية برصد دورها وتحديداً في واقعنا الحالي الذي صار يفتقر إلى القيم الإنسانية، ولا نجد صوتاً للمثقف يؤثر في الرأي العام ـ إن امتلكنا رأياً عاماً حقيقياًـ فمن يلقي نظرة فاحصة لقراءة المشهد العربي، سيلاحظ كثرة مفرطة بأعداد المثقفين، ومع هذا الكمِّ تنغمس المجتمعات في بركة الظلام، وزيادة استبداد الطغاة، فهل كثرة المثقفين تحولت إلى سموم تدس نفسها في شرايين المجتمع؟ أو أنها مجرد أرقام تسجل حضورها على المنابر الثقافية؟ إنَّ هذه التساؤلات تجعلني أستعيد مصطلح المثقف، المولود للمرة الأولى على يد جورج كليمنصو وقال إنه: رجل القضية، يؤثّر في الرأي العام، ويعزز الأمل بالمستقبل. ولو سرنا وفق هذا المفهوم في مرحلتنا الحرجة هذه، فسينطبق على الذين أثروا بالجمهور وهم أصحاب المحتوى الهابط بغضِّ النظر عن مسمياتهم الحالية، الذين أثقلوا كفة الميزان بجماهيريتهم العالية، وأفرغوا الكفة الثانية من القضايا، والرؤى، كما أنهم سحبوا البساط من تحت أقدام صاحب القضايا، فهنا الزمن يرفض مفهوم جورج، ويجعلني أميل إلى رأي جوليان بندا في كتابه (خيانة المثقفين) حين ألحّ على فكرةٍ مفادها نزوع المثقف من زمنه الثقافي إلى الثقافي الاجتماعي، ومن ثقافة النظرية إلى العملية، وما دور الحكيم الذي يأتيه الناس طلباً إلى دور الناشط السياسي الذي يطرح آراءه للرأي العام. فبندا يعطي مهمةً أكبر للمثقف، لكن من هو؟ عاد إلى أدباء القرن الثامن عشر الذين بلغوا منازل عليا مثل فولتير، ولامارتين، وفيكتور هيغو وغيرهم، ورأى أنهم عبّروا عن مواقف سياسية فبدأت شهرتهم من مظلة المواقف، التي بثوها في أعمالهم الأدبية، والفلسفية، ومقالاتهم، ولعلَّ الأمر الأهم أنَّ هذه الكتابات وما سبقتها من مؤلفات لغيرهم سبقت قيام الثورة الفرنسية، التي غيّرت نظام العالم، وقانونه، فيستشف من هذا أنَّ الفكر، والثقافة، سبقا ثورة الشارع، وأنَّ هؤلاء دفعتهم المواقف، وأهلتهم الموهبة ليكونوا مؤثرين بالرأي العام، والشعوب، فقام سارتر في القرن العشرين ببلورة هذه المهام في كتابه (دفاع عن المثقفين) ورأى أنها تكمن بعدة أمور: ترميم الصورة السلبية التي كوّنتها الطبقة الدنيا تقليدياً عن نفسها ومقدرتها، وأن يستعمل المثقف معارفه لخلق ثقافة عامة، ويسعى إلى تأهيل متعلمين من صفوف الطبقة الشعبية؛ لتحويلهم إلى مثقفين، وأن ينظر إلى غايته الذاتية (شمولية المعرفة، حرية الفكر، والسعي إلى الحقيقة)، وأن يجعل من نفسه حارس الغابات التاريخية التي تنشدها الجماهير. وتبدو هذه المهمات كمن يمشي على الماء، عند بحثنا عنها في عالمنا العربي، فلا نجدُ أغلبها على أقل تقدير، وعلى وجه الدقة في الحاضر الذي نعيشه فمن حقنا أن نسأل عن المثقف أين؟ ولا نسأل عن حضوره الشخصي، بل عن حضور تأثيره في المجتمع، والرأي العام.

إنَّ المثقف بأيّ صفة كان: أديباً، ناقداً، باحثاً، مفكراً، عالماً، نجد حضوره بين النخب لا غير، وكتاباته الأدبية أو البحثية، باتت غير مؤثرةـ إلا بعض الاستثناءات ـ ويعزى السبب بذلك، لأمور منها سطحية الكتابة، وخلوها من الأفكار المؤثرة، وضعف موهبة كاتبها. والجانب الثاني ابتعاده عن المواقف السياسية والاجتماعية، حتى وإن كتب موقفه على الورق، فما فائدة الكتابة دون مواقف فعلية كما فعل سارتر عندما قاد التظاهرات الطلابية في باريس ـ على سبيل المثال لا الحصرـ وهناك فئة أخرى تكتب للجمال والفن، وكأنها لا تريد أن تلقي بكتاباتها في براثين الواقع، فظهرت في العقدين الأخيرين كتابات تخلو من القيم. وكل هذه العوامل قد ساعدت على ظهور نوعين من المثقفين هما: المثقف الديني الذي صار يخدم توجهات الأنظمة الحاكمة، ممّا جعل دور المثقف اليساري ينكفئ، والنوع الثاني المثقف الإعلامي الذي يتابع الأفكار والمجريات ويستخلص منها المادة التي يقدمها للناس، وفق الإيقاع السريع؛ لأنَّ وقته لا يسمح له بالبحث. وهذان النموذجان حددهما الدكتور لطيف زيتوني، وهما المسيطران على عقل الجمهور العربي اليوم، ويقودانه إلى الجهات التي تخدم مصالح السلطات لأنَّ هذه الأخيرة يخدمها تخلّف الجمهور، فانتشرت السموم الثقافية في جسد المجتمعات، بقيادة فيروس المحتوى الفارغ وهذا الأخير صار يصدر ثقافة ليست من ثياب المجتمع الحقيقي، ومتطفلين بلا مواهب بنوا أبراجاً عالية، وحطموا القيم الإنسانية، فاختل نظام المجتمع، فأمسى هذا الأخير يمشي ببوصلة مفقودة، بين مثقف موهوب لا يحمل همّ قضاياه ويتبناها، وبين متطفلٍ أغرته الشهرة المزيفة وبدأ يقود ما يسمى بالرأي العام الذي لا نمتلكه بالمعنى الحقيقي لهذا المصطلح؛ لأننا ما زلنا جماهير تصنع طغاةً عادلين بحسب زعمهم، ويتبعون الفكرة الواحدة. إننا اليوم بحاجة إلى نهضة يسبقها وعي، وأدب يدرك كيفية تقديم النص للمعرفة الأخلاقية، دون استعمال الأحكام أو اللجوء إلى الأنطولوجية الأخلاقية. لأنَّ الآداب العالمية والفلسفة هما من حرّرا الشعوب من مقدسات الظلام.