القصر حكاية من إسبانيا

ثقافة 2023/02/22
...

 ترجمة: راسم الأعسم *


يُحكى أنَّ هناك قصراً كبيراً ومهجوراً لا أحد يسكنه، يقع ليس بعيداً عن مدينة توليدو، فقد تركه صاحبه لأنه كان مسكوناً بالأشباح. إذ كان يسمع فيه بين فترة وأخرى أنيناً وبكاءً حزيناً متوجعاً، كما يظهر ضوء شبحي من مدخنته يسطع ثم يخفت.

وصادف أنَّ رجلاً متجوّلاً يدعى ( ستيفن) يعمل على إصلاح الأواني والقدور سمع بحكاية ذلك القصر المسكون بالأشباح. فقرَّر أن يذهب إلى القصر وينام فيه، فأخبره الناس أنه لو استطاع أن يطرد الأشباح منه، فإنَّ صاحبه سيعطيه ألفاً من النقود الذهبية.

اشترى (ستيفن) ما يحتاج إليه من طعام وشراب وحزم من الأخشاب للتدفئة فقد كان الطقس بارداً ووضعها على ظهر حماره ومضى صوب القصر. كان القصر يغرق في ظلام دامس واختلطت برودة الهواء فيه بعفونة نتنة. وضع الأخشاب في موقد النار الحجري وأوقد فيها النار فبدأ يتحسّس الدفء يسري في أوصاله، فقرر أن يأخذ قسطاً من الراحة. قال لنفسه: “هناك شيئان ينبغي أن أتخلص منهما، هما البرد والخوف”. تناول مقلاة ووضع فيها شريحة من اللحم ثم وضعها على النار، وما كاد يفعل ذلك، حتى تناهى إلى سمعه صوت ينبعث من المدخنة، كان صوتاً رقيقاً وحزيناً يندب حظه (اوه.. يا لحظي). قال (ستيفن) موجهاً كلامه للشبح:

(هلا حييتنا بتحية مبهجة يا صديقي). ثم رفع قطعة اللحم من المقلاة ووضعها على ورقة ليدعها تنشف ثم واصل الطبخ، فعاد الصوت مرة أخرى وكان هذه المرة عالياً وخائفاً: (انتبه إلى الأسفل، صارخاً.. إني أسقط). 

 ــ حسناً ردَّ ستيفن (عليك ألا تسقط في المقلاة ). 

وفي لحظات كان صوت ارتطام لساق رَجلٍ كانت قد سقطت في داخل القصر، كانت الساق سليمة بشكل كافٍ، وترتدي نصف بنطال جوزي اللون مصنوعة من قماش قطني سميك ومضلع. 

تناول ستيفن بيضته مع قطعة من اللحم وشرب جرعة من النبيذ مرة أخرى.

كانت الريح تصفر حول القصر، فيما كان المطر المنهمر يقرع نوافذه بشدة.

(انتبه إلى الأسفل إنني أسقط) صرخ الصوت بقوة وفي الحال كان هناك صوت ارتطام لساقٍ أخرى سقطت وهي تشبه الأولى تماماً.

سحبها ستيفن بعيداً عن النار، ثم وضع مزيداً من الخشب في الموقد وراح يُسخّن الزيت في المقلاة ليضع فيها بيضة أخرى.

(انتبه إلى الأسفل) صرخ الصوت، وهو لم يعد الآن صوتاً رقيقاً، بل شديداً وقوياً.

(انتبه إلى الأسفل إنني أسقط).

(اسقط بعيداً، ولكن حذارِ أن تُريقَ بيضتي) أجاب ستيفن بابتهاج.

وفي لحظات كان هناك صوت ارتطام أقوى من الأول والثاني ولم يكن سوى صندوق ثياب هوى داخل القصر كان يحتوي على قميص أزرق وسترة مصنوعة من قماش قطني سميك.

وما كاد ستيفن يتناول بيضته الثالثة وآخر لحمة مطبوخة لديه، حتى صرخ الصوت من جديد ثم سقطت إلى الأسفل ذراع بشرية واحدة ثم تبعتها الأخرى بعد ذلك.

فكر ستيفن وهو ما انفك يضع المقلاة فوق النار، عليه أن يواصل طبخ المزيد من اللحم. 

(الآن لم يبق سوى الرأس، كم أنا متلهف جداً لرؤيته!) و(انتبه إلى الأسفل إني أسقط.. أسقط). كان صوت دوي هائل هذه المرة، ولم يكن ذلك الصوت سوى رأس بشري سقط فجأة أسفل المدخنة. 

كان رأساً كاملاً تماماً، وذا شعر أسود كثيف ولحية سوداء طويلة وعينين سوداوين تحدقان بنظرات يشوبها التوتر والقلق.

كانت قطع اللحم لم يكتمل طهيها بعد، رغم ذلك فقد رفع ستيفن المقلاة من النار ووضعها جانباً. وحسناً فعل ذلك، لأنه وقبل أن تلتحم أعضاء الجسد لتُكون عند ذاك إنساناً حياً أو شبحاً يقف بهيأته أمامه، فلربما سيفزعه ذلك المنظر وسيجعله يحرق أصابع يده بالزيت دون أن يدري.

(طاب مساؤك يا صديقي، هلا تتناول معي شيئاً من الطعام) قال ستيفن ذلك فأجابه الشبح:

(كلا، لا أريد طعاماً- لكني سأخبرك بهذه الحقيقة هنا الآن، إنك أول إنسان من بين أولئك الذين جاؤوا إلى هذا القصر وبقي حياً عندما التحمت أعضاء جسدي مع بعضها البعض، فقد لفظ الآخرون أنفاسهم من شدة الرعب حتى قبل أن أنتهي من ذلك)

(لقد حصل ذلك لهم، لأنهم لم يدركوا أنَّ عليهم أن يجلبوا معهم الطعام والنار) أجابه ستيفن ببرود، وهو يدير وجهه نحو المقلاة، وعندئذٍ أخذ الشبح يتوسل إليه قائلاً:

(انتظر دقيقة واحدةً، لو ناولتني قطعة لحم، ستنقذ روحي وتجعلني في سعادة غامرة، فبعيداً عن باحة القصر، وتحت شجرة السرو دفَنتُ ثلاث حقائب، الأولى مملوءة بنقود نحاسية والثانية فضية أما الثالثة فكانت ذهبية، سرقتُها من بعض اللصوص وجلبتها إلى القصر لكي أخبئها، ولربما يستطيع اللصوص قريباً اللحاق بي فيقتلونني ويقطعون جسدي إرباً إرباً، لكنهم لن يعثروا على النقود، والآن تعال معي واستخرجها بنفسك وأعطِ النحاسية منها إلى الكنيسة ووزع الفضية منها بين الفقراء واحتفظ بالنقود الذهبية لنفسك، وعندئذٍ سأُكفّر عن ذنوبي، لعلي أستطيع أن أمضي إلى ملكوت السماء). 

وافق ستيفن على ذلك وذهب مع الشبح إلى حيث باحة القصر، وحين بلغا شجرة السرو في إحدى زوايا القصر قال له الشبح: 

(احفر هنا) 

(احفر أنت بنفسك.) ردَّ ستيفن.

لذلك فقد حفر الشبح، ولم يمض طويل وقت حتى ظهرت حقائب النقود الثلاث. وهنا سأله الشبح: 

(والآن، هل ستعدني بأنك ستنفذ ما طلبته منك تماماً). 

(نعم، أعدك) أجاب ستيفن:

قال الشبح:

(إذن، هيا اخلع ثيابي).

 وما كاد ستيفن يفعل ذلك على الفور، حتى اختفى الشبح بسرعة تاركاً وراءه ثيابه الملقاة هناك فوق الحشائش القصيرة في فناء القصر.

لقد صعد إلى السماء مباشرة طارقاً بوابتها التي فتحها له القديس بطرس، مرحباً به ترحيباً ودياً حين علم أنه قد كفَّر عن خطاياه.

حمل ستيفن النقود إلى إحدى حجرات القصر الكبير وجلس هناك يتناول طعامه ومن ثم ذهب ليرقد بهدوء متدفئاً قبالة النار.

وفي صباح اليوم التالي جاء القرويون لينقلوا جثمانه بعيداً. وحين وجدوه حياً يعمل فطوراً لنفسه من آخر بيضة كانت لديه صرخوا به وقد اعترتهم حالة من الدهشة والذهول:

(إنك على قيد الحياة!! ) 

(أنا!!، إنَّ لدي ما يكفيني من الطعام والأخشاب حتى نهاية هذه الليلة، والآن سأذهب إلى مالك القصر لآخذ منه ألفاً من الريالات الذهبية، لقد ذهب الشبح إلى الأبد وستجدون ثيابه ملقاة في باحة القصر). 

 وفي الحال حمل ستيفن حقائبه على ظهر حماره ورحل.

 وفي البدء نقّده صاحب القصر ألفاً من الريالات الذهبية بعد أن شكره على حسن صنيعه، لينطلق عائداً إلى توليدو ليهب العملات النحاسية إلى كنيسته ثم يوزع الفضية منها بأمانة بين الفقراء.

وهكذا استطاع أن يعيش على ما حصل عليه من النقود الذهبية ولسنوات عدة في طمأنينة بالغة دون أن يعمل.

عن:

(Joseph Jacobs English Fairy Tales 1892)