التوقع الدلالي والسياق الثقافي

ثقافة 2023/02/22
...

 د. جاسم خلف الياس


في دراساتها التي تناولت اللغة بوصفها مجموعة من العلاقات التي تنشأ بين الألفاظ، شرعت اللسانيات المعرفيّة في التركيز على التعالق بين النص والسياق، عبر مرتكزين فاعلين، هما: السياق اللغوي وكيفية انوجاده في النص، والدلالات المعرفيّة وكيفيّة اقتناصها أو تخمينها، وهذا يقتضي تداخل توقعين في دراسة اللغة: توقع دلالي يتعلق بتوجيه المعنى، وتوقع تداولي يتعلق بأحوال المتخاطبين، وإذا كان العالم اللغوي بول غرايس في كتابه (نظرية المعنى) قد أثار إشكالية التوقع الدلالي حين تحدث عن التحليل الدلالي لمعاني الجمل وما يتصل بها من قصد المتكلم وحالة التلفظ.


 فإنَّ علماء اللغة من أمثال دان سبيربر، وفرانسوا ريكانتي، وتايلور بورج على سبيل المثال لا الحصر، أكّدوا بدورهم على القصد الدلالي المبني على القواعد اللغويّة من جهة، واستعمال اللغة من جهة ثانية، وهم بهذا يتجاوزون التصور اللساني الذي يركّز في المعنى، وفي علاقة الدال بالمدلول من دون الأخذ بدور المرجع والإحالة في التوقع الدلالي للنص.

وفي مقاربتنا التنظيريّة هذه سوف نستعمل هذا المفهوم (التوقع الدلالي) وننقله من دائرة التداولي إلى المعطى المعرفي عبر التركيز على التصورات السياقيّة التي تعد من أهم التصورات المعرفيّة، وقد حددها دان سبيربر وهو يجترح نظرية المواءمة بوصفها (نوعا من التمثيلات الدلاليّة التي تدرك للوهلة الأولى من بيانات السياق التي توجّه الكلام، وقد يتضمن بيانات السياق أفكارا مخالفة، تحملها الملفوظات عبر العملية التواصلية حينما يكون المعنى الذي ينطوي عليه الملفوظ مخالفا للمعنى الذي جرى ترميزه بواسطة العلامات

اللسانية). 

ويقودنا هذا الكلام الى الاعتقاد بأن هذه النظرية قد ربطت التوقع الدلالي بالسياق من أجل تعزيز العلاقة التواصلية التي تربط بين المتكلم والمستمع سواء أكان هذا الترابط ينتج معنى يتوافق مع السياق أو يتضاد معه. وعلى هذا الأساس يكون التوقع الدلالي عبارة عن تصورات قصدية ترتبط بالإحالة، وهذا ما عمّق ضرورة تجاوز النظرة الضيقة لأي نص من النصوص الإبداعيَّة، ولم يعد ينظر القارئ إلى النص بوصفه عملا منغلقا، أو مبتورا عن سياقه عبر ربطه بمعطيات متصلة بالذات المتلفظة أو الكاتبة وعلاقتها بالقارئ. من هذا المنطلق حضر السياق بقوة في الدراسات الحديثة بوصفه (أداة إجرائيَّة) في مقاربة النصوص، إذ لم يعد البناء اللساني هو المعوّل عليه في تحليل النصوص فحسب، وإنما استدعاء مكونات أُخر تسهم في انتاج الدلالة عبر استثمار الحمولة التي يقدمها السياق.

وعلى هذا الأساس حاولت القراءات الثقافيّة أن تنظر إلى النص الأدبي بوصفه حادثة ثقافيّة تختزل مفاهيم وممارسات  تشهد على عصر المبدع، وتستعين بلغة ذات تشكيلات بيانيّة مراوغة لا تستقر عند معنى معين، وهنا يكون لاحتمالات وعي القارئ بامتدادات الثقافة داخل النص الدور الفاعل في تأويل المعنى وتوجيه الدلالة، عبر تحويل اهتمام القارئ من الجمالي والأدبي في النص إلى النظر إليه بوصفه خطابا ثقافيا صادما بما يشتمل عليه من معانٍ ودلالات غير متوقعة. وإذا كان  تذوق النص الأدبي يعتمد على قرائن معينة، وفهمه لا يكتمل من دونها، فإنَّ السياق الثقافي يأتي في مقدمة هذه القرائن في تحديد معنى النص وتوجيه دلالته عند ربطه بمبدعه والسياقات التي انغمس فيها النص؛ لأنَّ اللغة - كما هو متعارف عليه - نشاط اجتماعي يتوقف فهمها على الإحاطة بمكونات المجتمع من عادات وأعراف وتقاليد وثقافات. 

وتأسيسا على ما سبق بصدد التوقع الدلالي والسياق الثقافي، فإن التركيز على الأنساق المضمرة والمخاتلة، والقادرة على المراوغة والتمنع، سوف يكون من أولى استحقاقات القراءة الواعية التي تكشف عن الفكر داخل النص بدلا من ادعاءات الناص؛ لأن النص الأدبي «بوصفه علامة على الثقافة يستمد قوته وسلطته من حضورها فيه. فهو - أي النص- مادة ثقافية تختزل السلوكيات والممارسات والمفاهيم السائدة إبان عصر المبدع والعصور السابقة عليه إلى لغة مراوغة لا تستقر عند معنى معين يزداد ثراؤها بتنوع المداخل والمنطلقات لقراءتها،  ويكون لاحتمالات وعي القارئ بالثقافة وامتداداتها داخل النص الأدبي دور مهم في تأويل المعنى. لأنَّ هذا الوعي الثقافي للقارئ هو الذي يمكنه من تأويل العلاقة بين دور العنصر داخل الثقافة ووظيفته داخل النص الأدبي، لأنَّ انتقال العنصر الثقافي من حقله الثقافي إلى النص الأدبي يجعله يحمل دلالتين مزدوجتين: دلالته داخل الثقافة ودلالته داخل النص الأدبي. ويشهد النص الأدبي على تحول العنصر من كونه ثقافيا إلى كونه أدبيا، وينتقل العنصر الثقافي إلى النص الأدبي في شكل أثر يعكس البنى الثقافيّة التي يشتمل عليها هذا العنصر الثقافي» قراءة النص وسؤال الثقافة ص4. 

أما ما يخص التوقع الدلالي المتعلق بتعديل المعنى فقد أشار إليه بعض البلاغيين ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الجرجاني حين عبّر عن (التعديل) بـ (التحويل) الذي يعدّ توطئة للتوقع الملائم للدلالة وانتماء للدلالة المرتبطة بالمحتوى المجازي وحصرها في الدور الإشاري، إذ يقول: (واعلم أنّ الفائدة تعظم في هذا الضرب من الكلام إذا أنت أحسنت النظر فيما ذكرت لك من أنك تستطيع أن تنقل الكلام في معناه من صورة إلى صورة من غير أن تغيّر لفظه شيئا فشيئا أو تحوّل كلمة من مكانها إلى مكان آخر، وهذا الذي وسّع مجال التأويل والتفسير حتى صاروا يتأوّلون في الكلام الواحد عدة تفاسير) دلائل الإعجاز ص339. وهذا التحوّل الذي أشار إليه الجرجاني يرتبط باللفظ الذي يثير في الذهن صورة المفهوم، وهو يخمّن في ذهنه صورة معينة تسمح للتأويل أن يعدّل صورتها من مكان إلى مكان آخر. ويبدو أن رصد السياقات المحايثة لعملية القول الشفاهي أو الكتابة النصيَّة، هو الذي يسهم في تقويض الدلالة ويشظّيها إلى دلالات مغايرة.

إنَّ خلاصة المقالة تنهض على الإشارات الوجيزة التي تؤكد على مسألة التناسب بين السياق والقول ولا سيما السياق الثقافي، وعلى هذا الأساس يعدّ المنطلق التداولي في دراسة النص من الركائز المهمة في دراسة المعنى السياقي عبر العلامات التي  تعبّر عن حضور الذات أو الآخر، بوصفها -أي العلامات- الموجّه الأوّل لدلالات النص من دون إغفال تنوّع السياقات النصيَّة التي تشترك في تخمين الدلالات، وهذه العملية التخمينية تقع على عاتق الدرس التداولي الساعي إلى البحث في القول الضمني الذي يريد الناص إيصاله إلى القارئ، أي بمعنى آخر يحوّل مقام القول إلى رؤية فنية يتداخل فيها الواقعي بالمتخيّل من أجل تخمين عوالم ممكنة عبر ربط النص بالمراجع

والإحالات.