علي المرهج
غاية الفكر الفلسفي إنسانية شاملة لا تختص بتحقيق نفع لجماعة ما، لأن الشغل الشاغل للفيلسوف هو تحقيق عالم أفضل تسعد به البشرية. الفلسفة أكثر رحابة من الأيديولوجيا، لأنها تبحث في الوجود بما هو وجود لا بما هو وجود عيني شاخص، بمعنى أنها تبحث في العالم وفي الوجود البشري عن الإنسان بما هو إنسان لا بما هو عربي أو غربي.
القول الفلسفي بحث في الذات، أو كما يُخاطب سقراط تلاميذه بالقول: «إعرف نفسك»، وهي نزوع نحو تخليص الإنسان من جهله كما فعل «سقراط»، أو تخليص الإنسان من «سباته الدوغمائي» كا قال «إيمانويل كانت»، أي تخليص الإنسان من تبعيته ليشعر بمعنى الحرية، وألا يرهن عقله لآخر (إنسان
مثله).
في المقابل نجد التبعية شرطًا من شروط الأيديولوجيا، فلا تشكيل لأيديولوجيا من دون وجود أفراد تابعين وخاضعين ومُستسلمين يكطونوا هم أساس بناء «الحس الجمعي» الذي يجرّ الجماهير للتأييد ومن ثم التصفيق والتطبيل والتهليل لقائد كارزمي أو لفكرة أمنوا بها أو بمن أسس له على أنها فكرة خلاصية، والقائل بها هو «القائد الضرورة» إن لم يكن هو الحكيم
والمُخلّص.
يؤكد ناصيف نصار في كتابه (معركة الأيديوالوجيا) أن الأيديولوجيا «فكر من أجل العمل»، بمعنى أن الأفق النظري للأيديولوجيا مرتهن بتحقيق أهداف عملية معينة لخدمة جماعة ما، ولذلك فالنظرة الأيديولوجية إلى السياسة هي «نظرة إلى واقع سياسي قائم من وجهة نظر هذه الجماعة (أمة أو طائفة أو قبيلة أو عرق، أو حزب)...إلخ، وفي سبيل خدمة فاعليتها السياسية يرى ناصيف نصار «أن الفكر الأيديولوجي قائم على أساس الوصول إلى غاية مرسومة» وإذا تطرق الشك إلى الفكر الأيديولوجي السياسي في إمكانية تحقيق الغاية العليا، فإنه سينهار» لذلك نجد أصحاب أي فكر أيديولوجي يستخدمون كل الوسائل والأساليب لتدعيم وترسيخ الثقة بجمال تلك الغاية، وهذا ما جعل الفكر الأيديولوجي فكرًا يقوم على القطعيات والحتميات، فالوحدة العربية ـ مثلًا ـ ركن أساسي عند القومي العروبي، والمجتمع اللاطبقي غاية الفكر الشيوعي.
لا يبحث الفكر الأيديولوجي عن الحقيقة المجردة كما هو الحال في الفكر الفلسفي، ولا يبحث عن كمالها في ذاته، وجل هم دعاته هو البحث عن الفكرة
النافعة.
لا تستطيع أن تنقلب فلسفة بالمعنى الصحيح والفلسفة لا تستطيع أن تحل محل الأيديولوجيا. وهذا لا يمنع من وجود من يقول إن للفلسفة وظيفة أيديولوجية، وهذه الوظيفة لا تتحول إلى عقيدة، بقدر ما هية موقف من العالم والحياة، وهذ يعني عدم انغلاقها على تفسير نهائي لطبيعة الدولة، وليس من مهمة الفلسفة التحزب لاتجاه دون آخر، وهي لا تستغل العاطفة الجمعية لتحقيق أهدافها، بقدر ما تطرح خيارًا لتحقيق لبناء مجتمع أفضل.
ما تبتغيه الفلسفة هو تحرير الإنسان من هيمنة النزعات الدوغمائية، ليكون أكثر حرية في التفكير وكسر قيود الموروث والسائد مما لا يصح تبنيه وفق منطق البرهان والعقل الاستدلالي، لأن كل هم الفلاسفة يكمن في إقناع الناس أنهم أحرار ولديهم القدرة على التفكير خارج سطوة الموروث والاعتقاد به أنه حق ولا يمكن الشك
فيه.
في كتابه (ما الفلسفة) يؤكد (سليم دولة): أن النظرة المتعالية للفيلسوف الذي يطل على العالم من برجه العاجي لم تعد تصلح للتعامل مع متغيرات الواقع المعاش، لأن الحياة في تغير مستمر، وهي تحتاج لعقل نقدي (مستقل) لا يرهن تفكيره على وفق رؤى أيديولوجيا ما ولا فكر حزب راديكالي مرتهن لمقولات قائد مستبد أو سلطة دينية مُطلقة، لأن الفكر الفلسفي لا يعيش بوجود فكر يعتقد أصحابه أن منظرّه معصوم عن الخطأ، كما يرى فؤاد زكريا في بحثه الموسوم: الفلسفة والدين في المجتمع العربي.
إن اللغة التي تبتغيها الفلسفة هي لغة الحوار وقبول الآخر المختلف، لذلك تكون المواطنة لا الانتماء الحزبي هي الحكم في التفضيل بين فرد وآخر في وطن
واحد.
مشكلة الأيديولوجيا تجعل الإنسان المؤدلج سجين رؤاه العقائدية وأطره الفكرية، لأنها تلعب على العواطف ولا تُخاطب العقل النقدي، لذلك نجدها صورة مشوهة للفلسفة لأنها تُمثل ضربًا من ضروب انحراف الوعي عن النزوع للبحث عن الحقيقة بفعل تأثير
الرغبة.