السيارات الألمانية بين المعايير الأوروبية والضرائب الأميركية

اقتصادية 2019/04/10
...

برلين / محمد محبوب
اتهمت المفوضية الأوروبية شركات السيارات الألمانية العملاقة “دايلمر” و “فولكس فاجن” و “بي ام دبليو” بالغش في تكنولوجيا الإنبعاثات، وجاء في تقرير المفوضية الأوروبية بشإن نتائج التحقيقات بأن هذه الشركات انتهكت قواعد المنافسة الخاصة بالإتحاد الأوروبي خلال الفترة من(2004 الى 2016) بالتواطؤ في ما بينها بالضد من الاتفاقات الأوروبية لتطوير تكنولوجيا نظيفة للسيارات، وأن الشركات الألمانية لاتلتزم بالحد من انبعاثات أكسيد النيتروجين من السيارات التي تعمل بوقود الديزل، والحد من الجزئيات التي تنبعث من السيارات التي تعمل بالبنزين. 
وقالت مارغريت فيستاغر مفوضة شؤون المنافسة بالاتحاد الأوروبي، إنه بسبب هذا التحايل على المعايير الأوروبية، فإن المستهلكين الأوروبيين قد حرموا من فرصة شراء سيارات تعمل بأفضل تكنولوجيات متاحة، وأضافت “ نسعى الى تغريم شركات السيارات الألمانية ما يصل إلى عشرة بالمئة من دخلها السنوي، ويحق الآن لهذه الشركات الرد على ما ورد في تحقيق المفوضية الأوروبية.”
وحسب هيربرت ديس الرئيس التنفيذي لشركة “فولكس فاجن” ان شركته تعيش اليوم “ازمة وجود”، وقال في تصريح لصحيفة “ سود دويتشه تسايتونج” الألمانية “الساسة ينفقون كثيراً من الجهد في تشريع قوانين صناعة السيارات، وإيجاد معايير غير معقولة للانبعاثات، بينما يغضون الطرف عن احتمال أن يؤدي ذلك إلى خسارة 100 ألف وظيفة في شركة فولكس واجن وحدها”، وأضاف ديس “مثل هذه الصناعة يمكن أن تنهار بشكل أسرع مما يدركه كثيرون، ما عليك سوى أن تنظر إلى تراجع وغياب صناعة السيارات في إيطاليا أو المملكة المتحدة”.
 وتواصل شركات صناعة السيارات الألمانية الكبرى تسجيل مبيعات قياسية للسنة الثامنة على التوالي رغم إنها لاتحظى بتقييمات جيدة منذ الأزمة المالية، لكن هناك شكوكا كبيرة في أمكانية الحفاظ على الأرباح الحالية فضلاً عن بعض التساؤلات حول ما إذا كانت صناعة السيارات الألمانية سوف تنجو من هذا التحول في تقنيات الإنبعاثات الغازية.
يقول ماكس واربيرتون، المحلل في وكالة برنشتاين “تبدو وكأن هناك توقعات بأن بعض شركات صناعة السيارات الألمانية سوف تعلن أفلاسها قريباً، لأن سوق الأسهم ينم عن وجود مايشبه الهدوء الذي يسبق العاصفة التي سوف تضرب صناعة السيارات والاقتصاد الألماني برمته، وأضاف ان صناعة السيارات تمر اليوم بمرحلة مفصلية منذ اختراع محرك الأحتراق الداخلي في ظل ظهور تهديدات جدية بحضر استخدام سيارات الديزل في دول الاتحاد الأوروبي فضلاً عن الآثار القاتمة لخروج بريطانيا من الأتحاد.   
وتأتي هذه التطورات الجديدة على رأس التحديات التي تواجه شركات صناعة السيارات، في الوقت الذي تستثمر فيه مبالغ كبيرة في تكنولوجيا البطاريات والبرمجيات المستقلة في محاولة للحفاظ على قيمة علاماتها التجارية، ويهتم المستهلكون كثيراً بتطبيقات لوحة القيادة، لكنهم لايبدون أهتماماً مماثلاً بمواصفات محرك الاحتراق الداخلي، وفي هذا السياق تقول ليندا كونج تينج مديرة الدخل الثابت العام لدى شركة “صن لايف” لإدارة الاستثمار “ربما يواجه قطاع السيارات في الواقع الموت بسبب آلاف الجروح الصغيرة التي تنخر جسده، لكننا لانعرف متى ستحل تلك اللحظة”.
وتراجعت عمليات تسجيل السيارات في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي بنسبة 23.5 بالمئة في الشهر الماضي نتيجة للمعايير الجديدة للانبعاثات، وفي المانيا وحدها بنسبة 31 بالمئة في ألمانيا، وشهدت سيارة “أودي” وهي السيارة الأكثر رقيّاً وربحاً في شركة “فولكس واجن” انكماشاً في مبيعاتها بنسبة 56 المئة مما أضاف مزيداً من التعقيدات إلى شركة تعاني “أزمة قيادة” منذ أن تم القبض على روبرت شتادلر الرئيس التنفيذي السابق لها، لدوره المزعوم في فضيحة الديزل في حزيران الماضي، وقد أقالته شركة “فولكس فاجن” من منصبه.
وتعد قرارات حظر سيارات وقود الديزل في معظم الدول الأوروبية قضية جوهرية وأكثر من كونها مجرد نقطة للمناقشة، ففي ألمانيا انتصرت محكمة فيدرالية إلى مجموعات بيئية ناشطة، وقررت ان الحظر وسيلة فعالة لتنظيف الهواء في 70 مدينة ألمانية تنتهك قوانين التلوث، وهناك قيود على قيادة سيارات الديزل في العديد من المدن الألمانية مثل برلين وهامبورغ وشتوتغارت وفرانفورت وغيرها.
ولم تنجو شركات صناعة السيارات الألمانية من نيران الرئيس الأميركي ترامب في الحرب التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين، ومن المفارقة أن تكون شركتا “بي إم دبليو” و “ديملر بنز” الألمانيتين هما الأكثر عرضة للخطر،  لأنهما بدلاً من بناء سياراتهما الرياضية ذات التكلفة العالية في ألمانيا حيث الأجور المرتفعة والنقابات العمالية القوية، استثمرتا بشكل كبير في الولايات المتحدة وبالذات في ولايتي ساوث كارولينا وألاباما، وتصدر شركة “بي إم دبليو” الألمانية أكثر من 70 بالمئة من سياراتها المصنوعة في الولايات المتحدة الى الخارج، وتم تصدير أكثر من 100 ألف منها إلى الصين في العام الماضي، وهي الآن تخضع لرسوم جمركية بنسبة 40 بالمئة، ما يهدد فائض تجارة السيارات البالغ 11.6 مليار دولار، الذي تتمتع به الولايات المتحدة مع الصين.
لكن شركات صناعة السيارات الألمانية لاتزال تتمتع بمركز متقدم وقوي بالنظر لقريناتها في العالم، وتقول مؤسسة “المانيا للتجارة والاستثمار” وهي هيئة متخصصة بالتطوير، إن 5,5 مليون سيارة خرجت من خطوط إنتاج البلاد العام الماضي، كانت 78 بالمئة منها مخصصة للتصدير الى جميع أنحاء العالم، ومن المرجح أن تنتج الشركات الألمانية سيارات برقم قياسي مقداره 16 مليون سيارة هذا العام، أي نحو خُمس المبيعات العالمية وثلثي جميع السيارات الفاخرة ذات الهامش الربحي الأعلى، أذ تولي هذه الشركات أهتماماً كبيراً بالابتكارات والأبحاث والتحديثات، وتتواجد في المانيا اكثر من 800 شركة توريد للسيارات، وتتوفر بيئة مثالية لصناعة السيارات، لكن من المرجح أن تفقد المهارات الهندسية، التي جعلت السيارات الألمانية متميزة عن بقية السيارات، ويمكن أن تتحول نقاط قوتها إلى ضعف في الوقت الذي تشهد فيه الصناعة تحولاً جذرياً، ويوضح ستيفان براتزل، مدير مركز إدارة السيارات في شركة “برجيش جلادباخ”  كان الألمان  يضعون قواعد اللعبة في عالم السيارات، الآن تتعرض صناعة السيارات الألمانية الى الخطر، وإذا حدث التحول نحو السيارة الكهربائية بسرعة، فإن أصول الإنتاج في ألمانيا يمكن أن تتحول إلى أعباء مكلفة، ويمكن أن يغلق عدد لا يحصى من شركات التوريد أبوابه، وهي شركات تلعب دوراً حساساً في تقديم نحو ثلاثة أرباع المحتويات داخل جميع السيارات.
و يقول المسؤول العالمي لسلسلة توريد السيارات في شركة “إي واي” سفين دارماني “الإطار الكامل للسيارة يكون مختلفا عندما تتحول من استخدام البنزين إلى الكهرباء، مصانع بأكملها ستصبح مهجورة، والشركات التي تصنع المكابس وأعمدة المحركات لن تقوم بتصنيع البطاريات، إنها سلسلة إمدادات مختلفة”، وحتى الآن يُعهَد بمقاولات توريد سلسلة الإمدادات الجديدة المذكورة إلى دول اسيوية، لكن الصين تسيطر على أكثر من ثلثي سوق صناعة البطاريات، وحصة أوروبا العالمية من القدرة التشغيلية لإنتاج البطاريات الحالية والمقررة هي 4 بالمئة فقط وفقاً لبيانات “وكالة بلومبيرج”، وفي الوقت الذي يرى فيه الساسة والتنفيذيون الأوروبيون في قطاع السيارات أن هناك تهديداً بخسارات كبيرة في مجال تكنولوجيا البطاريات.
يقول هارالد هندريكسي الخبير لدى بنك مورجان ستانلي “الأمر المهم هو أن الأوروبيين يقومون بإعداد قواعد أكثر تشدداً لأنبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم، لكن سياسة القاعدة الصناعية لم تستجب على الإطلاق” وبالطبع أحد الأسباب وراء استجابة ألمانيا البطيئة هو العائدات المالية الجيدة فالسيارات الكهربائية غير مربحة حالياً، بينما بيع السيارات التقليدية التي تعمل بمحرك الاحتراق الداخلي إلى الصين الآخذة في الازدهار، والى أماكن أخرى مربح للغاية، وقد ارتفعت الأرباح التشغيلية في شركات صناعة السيارات الألمانية بنسبة 50 بالمئة، أذ تصاعدت من 7.73 مليار يورو إلى 11.63 مليار يورو خلال الفترة (2013 الى 2017)، وإن نحو ربع إجمالي السيارات التي بيعت في الصين العام الماضي، كانت مصنعة في ألمانيا، وبالنسبة للسيارات الفاخرة كانت النسبة 71 بالمئة.
وتمتلك شركات السيارات الألمانية الثلاث أرصدة تصل الى 60 مليار يورو أي ثلاثة أضعاف المبلغ الذي كان لديها منذ الأزمة المالية عام 2008، وسمحت مثل هذه الأرقام العالية للشركات الألمانية بأن تستهين بالشركات الجديدة مثل الأميركية “تسلا” كون الأخيرة شركة ناشئة ومنافسة ومتخصصة بصناعة السيارات التي تعمل بالطاقة الكهربائية، لكن هذا الغرور بدأ بالتداعي، إذ استطاعت شركة “تسلا” الأميركية الرائدة تسليم 83,500 سيارة خلال ثلاثة أشهر، بعد ان نجحت في زيادة إنتاجها، واليوم تتفوق مبيعات سيارات “تسلا” على مبيعات سيارات المرسيدس والبي ام دبليو الألمانية ضمن فتة سيارات الركاب، لكن على الصعيد العالمي لاتسطيع شركة “تسلا” منافسة الشركات الألمانية، وإن نجحا في التغلب على مبيعات شركة “جاكوار” الأمريكية بنحو الضعف، وتخطت مبيعات “بورش” الأميركية بحوالي 20 ألف سيارة.
واضطرت شركات صناعة السيارات الألمانية الى تقديم خطط طموحة لجعل بعض المصانع قادرة على إنتاج السيارات الكهربائية خلال السنوات العشر القادمة، وتقول شركة “فولكس واجن” إنها سوف تقوم بتصنيع 150 ألف سيارة كهربائية عام 2020، ويشير بيرنارد ماتيس رئيس الجمعية الألمانية لصناعة السيارات، إلى أن شركات التصنيع الألمانية لديها في الأصل 30 موديلاً للسيارات الكهربائية والهجينة معروضة للبيع، وتمثل نصف جميع المبيعات التي من هذا القبيل في أوروبا، ويقول ماتيس “نحن لسنا متأخرين، لو كنا كذلك، لما أصبحنا قادة السوق في مجال السيارات الكهربائية في أوروبا اليوم” وبالفعل فأن سبع من أصل عشر سيارات كهربائية أوروبية هي من انتاج ألمانيا. 
يزعم إيلون ماسك الرئيس التنفيذي لشركة “تسلا” الأميركية قدرة شركته على وقف اعتماد العالم على اقتصاد يعتمد في الأساس على أنواع الوقود الأحفوري، لكن صناع السيارات الألمان يفاجئون الجميع بقدرتهم على إنتاج مركبات كهربائية تتماشى مع قواعد الاتحاد الأوروبي بشإن الانبعاثات الغازية، لكن مبيعات الموديلات الكهربائية الألمانية الصنع مازالت محدودة ولا تمتلك القدرة على منافسة شركة “تسلا” الأميركية والشركات الأخرى.
وتقول أينجا فيتشر الخبيرة الأقتصادية “لايوجد شك في قدرة الألمان على صناعة سيارات كهربائية رائعة، وكل ما في الأمر أنهم اختاروا عدم القيام بذلك، مستشهدين بتكاليف إنتاج البطاريات المرتفعة والبنية التحتية الضعيفة”، وبالنسبة لكثير من الخبراء فإن المشكلة تكمن في العقلية التقليدية في المانيا وإعطاء الأولوية للأرباح، لكن الشركات الألمانية تتوجه اليوم نحو عقد شراكات مع شركات التقنيات الألكترونية، شركة فولكس واجن تعمل اليوم مع شركة “مايكروسوفت” وشركتا جيت وبي إم دبليو مع شركتي إنتل وموبايل آي، على التوالي، وشركة ديملر مع شركتي بوش وأوبر.
ولم تتوقف معاناة صناع السيارات الألمان عند التحديات التقنية، بل صاروا اليوم في مرمى نيران الرئيس الأميركي إذ ابدى قطاع تصنيع السيارات في ألمانيا انزعاجاً كبيراً من تقرير سري أمريكي يصنف تلك الواردات على أنها تهديد للأمن القومي، ما قد يفسح المجال نحو المزيد من فرض الرسوم الجمركية، وقال ترامب “إذا أردتم تصنيع سيارات للولايات المتحدة فأتمنى لكم حظاً وافراً، ولكن عليكم دفع 35 بالمئة ضريبة عن كل سيارة”، وتابع ترامب “أقول للشركات الألمانية إذا كانوا يبنون مصانع للسيارات في المكسيك ويعتزمون بيعها في الولايات المتحدة دون ضريبة 35 بالمئة فلتنسوا الأمر”، ويضيف الرئيس ترامب بأن عدد السيارات الألمانية الموجودة في الولايات المتحدة أكثر من عدد السيارات الأميركية الموجودة في ألمانيا وهذا غير منصف على حد قوله.
ومن جانبها اوضحت رابطة شركات صناعة السيارات في ألمانيا (في دي إيه) أن قطاع صناعة السيارات الألماني وفر وحده خلال السنوات الماضية أكثر من 113 ألف وظيفة في الولايات المتحدة فضلاً عن تدريب الكثير من العمالة الشابة،  وكل هذا يعزز الولايات المتحدة ولا يمثل مشكلة أمنية لها، وأعربت الرابطة تأييدها للتجارة الحرة والتخلص من الجمارك مؤكدة أن  الحواجز الجمركية لا تفيد أحداً ولا الولايات المتحدة، فضلاً عن أنها تمثل عبئاً على التجارة العالمية وكذلك سلاسل القيم المضافة التي يستفيد منها قطاع صناعة السيارات الأمريكي بالدرجة الأولى.