حي 14 تموز مأثرة سرديَّة لسهيل سامي نادر

ثقافة 2023/02/23
...

 طالب عبد العزيز  

في حي صغير اسمه حي 14 تموز لا يتجاوز طوله الـ 400 متر، وبرواية حملت اسم الحي وبلغ عدد صفحاتها الـ 166 صفحة، صدرت عن دار المدى مؤخراً، اختصر سهيل سامي نادر مأساة العراقيين طوال نصف قرن تقريباً، ولفترة امتدت من نهاية الستينات وعودة حزب البعث بانقلاب 68 حتى دخول الامريكان واحتراب الطوائف بعد العام 2003، في سردية عجيبة لخصت كل مآسي البلاد من خلال مجموعة من الشباب المثقفين الذين يسكنون الحي (فريق البؤس والمرح) والذين يعرفهم بأنهم جماعة أدبية.

بؤساء بسبب شبابيتهم، نشؤوا على خلاف القاعدة التي يعالج العجائزُ من الرجال والنساء فيها أولادهم بالنصائح والعاطفة والرشى، كانوا قد وقعوا مجتمعين بحبِّ «مياسة» المحررة في مجلة الاذاعة والتلفزيون، التي عشقوها وتطلعوا لرؤيتها، ثم لم يتضح لهم فيها ما إذا كانت رجلاً او امراة عانس أو مما تفبركه إدارة المجلات كوسيلة لاجتذاب القرّاء.   هي رواية سيرية، بطلها (منير) الذي هو سهيل نفسه، وقد أشرك فيها أصدقاءه، مع أنه لم يسمِّ بعضهم باسمائهم الصريحة، لكنَّ أيَّ قارئ مثقف من جيل الستينات والأجيال اللاحقة سيجد فيها شيئاً من حياته وطفولته ونزقه ومروقة وعذاباته ايضاً، لذا، فهي حكاية الأجيال العراقية التي عبثت السلطات البعثية بمسيرة وجودها الانساني، وانتهت بهم الى السجون والحروب والضياعات..  

الرواية رحلة مشوقة، كتبت بلغة سهيل الساحرة، الأجمل بين لغات الروائيين العراقيين، مطعمة بالأفكار الاستثنائية العميقة، وبشطحات وسخرية وتهكم، ومرارة قلب يعرفها كلُّ من عرف روح وآلية سهيل سامي نادر في الحديث والكتابة، وفي سبر واستقصاء الحياة السياسية والاجتماعية من داخلها المربك، ضخَّ فيها جملة أفكاره وتصوراته، في وعي نادر عن تركيبة الشخصية العراقية، وما تعرضت له من تشويه ومسخ على أيدي النظام الديكتاتوري، فهو يصفها على لسان أحد ابطاله: «بأنّها حلزونات، تلتف على نفسها، لا تصلح أن تروي عن نفسها، ولا أن يُروى عنها ولها».

  في لعبة سرديّة ذكيّة يُلقي سهيل بتبعات روي نصف الرواية على الشاب الذي يأتي زائراً صحبة شقيقه الأصغر، كما يشير في المقدمة القصيرة، التي استهل بها متن الرواية، ثم أنه يَعِد جماعته (فريق البؤس والمرح) بتكملة الرواية، تحت عنوان تهكمي وساخر هو (الجندي البشوش في قاطع الشوش) قبل أن تنقلب حياة بطله منير، عقب لحظة استدعائه الى المنظمة الحزبية- غرفة الاتحاد الوطني في كلية الآداب- ووقوفه المُذل هناك، حيث يُسجِّل أوَّلَ استجوابٍ حزبيٍّ له، وتبدأ سلسلة الاستدعاءات من شعبة فلسطين الثانية لحزب البعث، والرفيق وليد، ولا تنتهي بصعوده سيارة المرسيدس السوداء، متهما وشاهدا في قضية (انتحار) فالح أحد أعضاء فريقه، في مسيرةٍ طويلة موجعة، تعمل يدُ النظام القمعية من خلال الملاحقات والحروب والحصارات على تفكيك فريق البؤس والمرح، وانتهائهم بنهايات ما كان لها أن تحدث، فتتسلل التهم بالوشاية والملق الى نفوس بعضهم، على استحالة وقوع ذلك، وتبتر الحربُ كفَّ ابراهيم ابن الضابط، ويقع محمود الضعيف أسيراٍ، ويؤتى بجثة سعد المالح ممزقة، ويسمع في حي 14 تموز اطلاق عيارات نار بتشييع جنازة سعود ابن مسعودة، أما أفنان فقد تعلّم إرضاء الآمرين، وعرف كيف يكون خدوما لهم، فكانت رشاويه من النوع المقبول، وظل يتمتع بإجازات، يسميها إجازات تأجيل الموت. أمّا موت الجنود الحقيقي فكان يتم تأجيله بشرب العرق، أو بالصلاة وقراءة القرآن، والتسبيح والاستخارة والاستغفار.

 في السنوات التي تفرق فيه أعضاء فريق البؤس والمرح بعد سوقهم كجنود في الحرب وأصابهم ما أصابهم، ينتفع منير من عرج ساقه، التي ظلت تعزف على الطريق أنواع الموسيقى، كما يصفها في كثير من صفحات الرواية، حيث يتم تأجيل سوقه كجندي، بسبب عوقه هذا، ويكمل تعليمه الجامعي فترفضه إدارة التعليم كمدرس، لأنه بعاهة جسدية، وبسبب الحصار يتخلى عن كتابة الرواية، فيعمل مصلحاً للأجهزة الكهربائية، لكنَّ آلة النظام التي أتت على الأصحاء الشباب أتت عليه في الأخير، فقد تم سوقه من مبنى شعبة فلسطين للحزب الى أحد معسكرات الجيش الشعبي بالموصل، وهناك ظل ينوء بثقل البندقية والشواجير. 

 في معسكر التدريب غير المتكافئ تبلغ عبقرية سهيل الروائية مداها الأبعد، حين ينبطح مصوبا بندقيته على الشاخص، فيستغرق بحالة شرسة، يسترجع فيها مشاكله مع زمانه، فهو يقول: كنت انظر إلى الأهداف الافتراضية أمامي كعدو، من طبيعة خاصة، لم يكونوا جنوداً، ولا ضبّاطاً، ولم يكونوا ايرانيين، لم يكونوا بشراً، بل جمهرة هائلة من القضايا، مثلّت خسائري، التي لم أحددها تماماً، كما مثلّت قيماً، واوضاعاً، ومضايقاتٍ: انعدام العدالة، السلطة، الحزب القائد، الدكتاتور المرح، المرض، الخُطب، الشعارات، الأفكار المتعالية، اكتشفتُ خصوماً، راحوا يظهرون تباعاً، من ذاكرتي، وتدريبي التعليمي، وثقافتي، ومن الكتب التي قرأتها، وكانت هناك قدمي الثقيلة، وعقدي النفسية والجنسية، وكل ما قهرني واستبدَّ بي.