الصمت جزء من عملية الشفاء

ثقافة 2023/02/25
...

 رنيم العامري


هذه رواية هادئة، صموت، تُشبه عنوانها، ذلك أن الصمت بحسب رأي كاتبتها "جزء من عملية الشفاء"، لذا لن يعثر القارئ خلال صفحاتها على عواطف وكلمات صريحة ومدوّية، ولكن من خلال الكتابة الذكيّة عاطفياً سيميّز أنها حكاية إنسانية ذات صلة بأيّ أحد، وما يجعل بطلها شبيهاً بأيّ منا هو كلامه القليل الخالي من التفاصيل الشخصية، يقول بطلها -التائه: "لا أعرف من أنا. لستُ شيئاً. ولا أملك شيئاً".

إنّها ببساطة عن رجل تحلّ بهِ النكبات، ويعاني من أزمة منتصف العمر، إنّه "لون مائي إلى زوال"، عالمه بطيء وخاوٍ، وهو في صراع مستمر مع تفاهة الحياة اليوميَّة، كما أنّه مصاب بعقدة إصلاح الأشياء منذ صغره، لكنّه عاجزٌ عن إصلاح حياته. فيفكّر بالانتحار، يسأل نفسه ويجيبها أيضاً "هل سيفتقدني العالم؟ كلا. هل سيزداد العالم فقراً من دوني؟ كلا. هل سينجو العالم من دوني؟ أجل. هل العالم أفضل الآن مما كان عليه حين جئته؟ كلا".

بعدما تيقّن بطل الرواية (يوناس إبنسير) أخيراً من أن الخلل الجيني الذي أودى بحياة أبيه لن يُعفيه من عناء الانتحار، راح يفكّر بالإقدام على الانتحار كحلٍّ نهائيٍّ لأزمته، لكنه يفكّر في الانتحار بالطريقة نفسها التي يسدّد فيها الناس فواتيرهم المتراكمة، أي بطريقة عملية. إنّه يتأمّل في كل الخيارات: هل ينزع ضوء السقف ويعلّق مكانه خطافاً؟ وماذا عن المكان؟ هل يطلق النار على نفسه في غرفة المعيشة أم يشنق نفسه في غرفة النوم، أم المطبخ، أم الحمّام؟ وماذا سيرتدي؟ بيجامته أم ملابس العمل؟ بحذاء أم من دون حذاء؟ وما هي الطريقة الأفضل لكي يستعير بندقية من جاره من دون أن يثير الشكوك من أن موسم الصيد في أوائل أيار قد انتهى، فيحسب الحيوانات التي يمكن اصطيادها في هذا الوقت، لكنه يتذكّر أنه ليس صياداً، وأن جاره يعرف ذلك، إذن: "على أيّ شيء يستطيع المرء أن يطلق النار في أيّار، باستثناء نفسه؟". 

يقرر أخيراً أن يغيّر مكان تنفيذ خطته، لأنه لا يريد أن تعثر ابنته على جثته وتُجبر على تنظيف الشقة، لم يرغب في أن يُحمّلها هذا العبء، وأيضاً لأنه لم يستطع تحشيد الإرادة الكافية للرحيل على طريقة هيمنغواي، أو في الحقيقة على طريقة أيّ من الأدباء والموسيقيين والرسّامين المُنتحرين الذين بحث عنهم في محرّك بحث (غوغل). فيقرر في نهاية المطاف أن يقوم برحلة ذهاب بلا إياب إلى بلدٍ يعيش في أعقاب الحرب، حيث يُقال في الأخبار إنه بلد محفوف بالمخاطر. لن يُذكر اسم البلد في الرواية، وهذا ما يجعله، بطريقة ما، أيّ بلد يحاول أن يتعافى من الحرب. تقول كاتبة الرواية في أحد أحاديثها "هناك عادةً غيابٌ مقصود للزمان والمكان في كتبي؛ لأن اللا مكان يعني كل مكان". وهذا اللا مكان بالذات مثالي بالنسبة ليوناس، لعلّ رصاصة قناص تصرعه أو ينفجر بهِ لغم أرضي. يسافر خفيفاً "يحزم أمتعة سفرٍ لجثة"، لا يأخذ إلا بضعة غيارات من الملابس ودفتر مذكراته، ولأنّه عمليّ جداً، يقرر أن يأخذ معه مثقابه وعُدّته، لكي يبني بيديه أداة تنفيذ خطته، في حال أن الحظ لن يحالفه ولن يدوس على لغم أرضي بالصدفة.

يستأجر غرفة في فندق الصمت. ولكنه سرعان ما يكتشف أن مهاراته كحِرفيّ ماهر مطلوبة في الفندق وبين سكّان المنطقة. فيُطلب منه أن يبدأ بإجراء تصليحات على الفندق مقابل أُجرة الغرفة. كما أنّه يقدّم يدّ المساعدة في إصلاح مطعم في المنطقة، ثم في بيت تسكنه النساء. 

يبدو أن مؤلفة الرواية الكاتبة الآيسلندية (أودور آفا أولافسدوتير)، تطرح فكرة تقول إن الألم والحزن والكآبة ليست دائماً ما يدفع المرء للانتحار، بل العيش بلا غاية أو هدف، لأن يوناس عندما يعثر في الفندق على غايته - مع أنّها كانت مؤقتة- يعدل عن فكرة الانتحار. ربما تقول الكاتبة إن المرء لا يجب أن يكون سعيداً، بل يجب أن تكون عنده غاية، وهذه الغاية هي التي أنقذت يوناس من الموت هذه المرة، ولو كان ذلك عن طريق مثقاب وبضعة مسامير. يأتي أحدهم ويسأل يوناس: "أتريد أن تُصلح البلاد بأسرها مُسلّحاً بمثقابك الصغير؟ أوَ تظنّ أنك قادر على إعادة إلصاق عالمٍ مكسور؟". لكن يوناس لا يريد إصلاح العالم ولا البلاد، إنّه يريد إصلاح الفندق والمطعم وبيت النساء، ربما لأنَّ هذه هي الطريقة الوحيدة لكي يصلح حياته. نحن نعلم أن الثلاث نساء الوحيدات في حياته لم يعُدن بحاجة إليه، تركته زوجته، وبحسب قول أمّه "ثمة رجال لا يتعافون أبداً إن هجرتهم امرأة"، أمه نفسها مصابة بالخرف ولا يريد أن ينتهي بهِ المطاف مثلها، واكتشف أن ابنته ليست من صلبه. ولكن في فندق الصمت هنالك منكوبون بحاجة إليه، ووجوده على قيد الحياة ضروري في مكانٍ يعاني من نقص في الرجال والأدوات، على حدّ قول إحدى الشخصيات.

هذه ليست رواية كئيبة كما يبدو الأمر لأول وهلة. يوناس يمتلك حسّاً كوميدياً تراجيدياً. كما أنه حسّاس جداً، تصفه أُمّه بـ "الجرح المفتوح"، وتقول إنّه "كان يبكي إذا رأى طيراً كسير الجناح". قد يكون إيقاع الرواية بطيئاً، ولكنه يظل آسراً إلى النهاية الصادمة. وحريٌّ بالقول إن المترجم حسام موصللي قد أحسن في عمله، فبالرغم من أن الرواية تكاد تخلو من المقاطع الطويلة، لكنها لم تبدُ ولا لمرة مقتطعة على قصرها، فقد ظلّ طوال الكتاب مصراً على اختيار أكثر صياغة شاعرية للعبارة.  

حازت رواية فندق الصمت، الصادرة عن دار الآداب بترجمتها العربية، على جائزة المجلس الأعلى للأدب الإسكندنافي، وجائزة أفضل رواية أيسلندية. واختارتها جريدة The Independent واحدة من أفضل عشر روايات عالميّة لسنة 2018. وهي روائية، إن شئتُ القول، جديرة بالقراءة.