لن نشرب البحر

آراء 2023/02/26
...

 حسب الله يحيى 

يستاء عدد كبير من المسؤولين، من النقد الموجه إلى ادائهم وكفاءتهم وعدم حسن تدبيرهم للمهام المناطة بهم. يستاؤون من رأي صادق وصريح يشخص ويدون ويبوح، ليس ضد اشخاص بعينهم وانما إلى ظاهرة تتعلق بعجز هؤلاء وتكرارهم لأخطائهم وغفلتهم واعتدادهم بأنفسهم، بوصفهم الأفضل والأقدر والأبهى والاكثر فهما على قيادة هذه الدائرة أو تلك المؤسسة، مع أن الكثرة منهم لا يعرفون كيف يوجهون كتابا إلى مسؤوليهم وليس بوسعهم اتخاذ قرار بشأن هذه المسألة أو تلك.

بل لا قدرة لهم على مواجهة العاملين معهم، لا بوصفهم بشرا على دراية واتقان بعملهم، وانما محاولة للنيل منهم ومن قدراتهم واخلاصهم وتفانيهم في العمل.. حتى ليحسب المسؤول عن ادارتهم، إن الموقع الذي يشغلونه يهدد وجودهم بالزوال ومجيء الكفاءات لتملأ الكراسي التي هم لا أهل، لها وليست مما يبنون عليها وجاهتهم وهيمنتهم وسلطتهم الفارغة، ذلك أنهم يدركون جيدا أنهم بدون هذه الكراسي التي يشغلونها لا حياة لهم ولا ارادة لوجودهم، وإنما هم هامشيون وطارئون على هذه المواقع القيادية وهم لا قدرة لهم على المعرفة بعملهم لا فكرا ولا تجربة ولا ثقافة ولا أداء ولا سلوكا.

واذا كانت الدولة حريصة على ما بات يعرف بـ(المستوى الهابط ) وضرورة عزلهم ومحاسبتهم والاستغناء عنهم، بوصفهم لا يملكون المستوى الأدنى للعمل الوظيفي المتقن، وإنما هم في المستوى الهابط والأمي الذي يديرون به العمل.

المهم ألا يكون هذا المستوى الهابط مقترنا بالامور الاخلاقية حسب، وإنما أن يكون معنيا بفضح وإدانة كل مسؤول هابط المستوى في ادائه وممارسته لطبيعة العمل القيادي الذي يتولاه.

هذا القانون لا يراد به أن يتحول إلى سوط مسلط على النقد البناء والرأي الجريء والصريح والحقيقي، الذي يكشف عن طريقة عمل الفاسدين اداريا وماليا وأمية كذلك.

واذا كان كثرة من هؤلاء المسؤولين قد تقلد الكراسي لا عن جدارة ولا كفاءة ولا نزاهة وانما عن محاصصة مقيتة فرضها واقع سياسي متأزم وغير منضبط.

فأنه يحسن بهؤلاء الذين اختاروا هذا النفر من (المسؤولين) التعرف على ادائهم ومدى شعورهم، عندما اختاروهم للعمل وما اذا كانوا يحسنونه ويتعاملون مع الناس بالخبرة أولا وبالحسنى ثانيا لا أن يكونوا اداة قمع لكل نزيه وصادق وامين وكفء.

اما من نكثوا بوعودهم وقسمهم في الاداء الناضج والامين، فهؤلاء يحسن بهم البرهان على مصداقيتهم، لا أن يكونوا صفحات سوداء امام من رشحهم وامام والمجتمع.

واذا كان الفيلسوف الكندي د.الان دونو قد شخص هذا النظام الذي يقوده جهلاء القوم، ووصف نظامهم بـ(نظام التفاهة)، بسبب سيادة "الطبقة المسيطرة من قبل هؤلاء الاشخاص التافهين" على حساب الجدية والجودة التي يفترض ان يتحلى بها كل مسؤول، فإن النتيجة من استثنائهم ستؤدي إلى خسائر فادحة بالعمل وبالبلاد والعباد.. وهذا ما نشهده من اخفاقات كثيرة في عدد من الدوائر والمؤسسات، التي يديرها هذا النفر من أصحاب (المستوى الهابط) ليس سلوكيا في التعامل مع زملاء في العمل حسب، وانما على مستوى الجهل والاخطاء التي يلحقونها بدوائرهم ماديا ومعنويا.

إن البعض منهم يرى ان وظيفته تعتمد أساسا على اغتنام الفرص للاستثار بالمال المهدور والزمن المهدور والبشر المهدور الحقوق من قبل هؤلاء الذين لا يصغون إلى كلمة حق توجه اليهم وكأنهم يقولون لمن يوجههم نحو الصواب (اشربوا ماء البحر.. فلا شيء يحول دون مسارنا هذا ).

نعم.. البحر واسع والمصلحون في الارض من مثقفين وخبراء وانقياء يعرفون كيف يعومون في البحر، وكيف يمكنهم تنقية ماء البحر بحيث يشربون منه ما هو نقي بنقاء قلوبهم، وليس لهم مما تبقى الا الرفض.

نعم.. الأنقياء وحدهم من يركبون البحر ولا يخشون على انفسهم من عبابه، ومن الرياح العاتية التي تلاحقهم بالكذب والرياء والنفاق والفساد. إنهم لا يخشون البحار، وكل واحد منهم ربان ماهر في الكشف عن الفساد والمفسدين والأمية والأميين..انهم لا يشربون من ماء آسن ولا بحر يفسد عليهم حياتهم في تلوثه العابث.

انهم يقطرون مياه البحر قطرة قطرة.. إنهم يعرفون كيف يصطفون لانفسهم هذه القطرات النقية من كل هذه البحار العاتية التي تواجههم بالجهل والمرض والحياة المرة والقاسية، إنهم يصطادون من البحر أجمل وافضل الاسماك ويشربون من البحر اعذب المياه لانهم يصطفون لانفسهم الحقيقة وليس اقل منها..فالبحر ابن الصفاء.. صفاء المحتوى وصفاء الليالي التي يمكنها ان تتحرك لتذيب تلك الليالي الحالكة، وتلك الشوائب الفاسدة وتلك السعة التي لا قدرة لها على أن تتحرك امام حقيقة يمتلكها عقل نير وموقف شجاع.