د. صادق كاظم
تشير الإحصائيات إلى وجود أكثر من 30 نزاعًا عشائريا يندلع كل عام في العراق، وتتركز بؤرة هذه النزاعات في المناطق الجنوبية من العراق، حيث يقع اكبر تجمع عشائري في البلاد هناك.
هذه العشائر تمتلك ترسانات ضخمة من الأسلحة تسمح لها بإدامة نزاعاتها المسلحة مع العشائر الأخرى، وقت ما تشاء وهذه النزاعات تتكرر بشكل دوري، ويسقط فيها قرابة الـ50 رجلا سنويا مما يتسبب بادامة عمليات الثأر والقتل المتبادل بين العشائر المتخاصمة.
هذه النزاعات والمعارك العشائرية تحدث كل عام وتتسبب في خسائر بشرية ومادية كبيرة، ومن دون توقف وتهدد أمن البلاد بشكل رئيسي، خصوصا أن بعض العشائر تستغل هذه النزاعات لابتزاز الحكومة والشركات العاملة في مناطق النزاعات.
رغم محاولات الحكومة لايقاف هذه النزاعات بشكل ودي وسلمي، لكنها دائما تصطدم بوجود زعامات ترفض الصلح واغلاق هذا الملف بشكل نهائي.
أخبرني ذات مرة زعيم عشائري شاب ومتعلم بانه فكر ذات مرة بعقد لقاء تصالحي مع زعماء عشيرة اخرى لها خصومات دموية معهم وعمليات قتل وثأر ممتدة منذ عشرات السنين، وطي صفحة الخلاف ووجد تجاوبًا من زعماء العشيرة المتخاصمة، وتمَّ الاتفاق على إقامة اللقاء في العاصمة بغداد في احد الفنادق، لكنه فوجئ باقاربه المتزمتين، الذين رفضوا مسايرته في هذا المشروع السلمي الناجح، وكاد أن يفقد حياته بسبب ذلك مما اضطره إلى التخلي عن الزعامة لصالح أشقائه، الذين يمتلكون توجها صقوريا متشددا رافضا لاية مصالحات أو تسويات مع العشائر الأخرى، ليقرر بعدها السفر إلى خارج العراق لإكمال دراسته الأكاديمية وترك هذا المشروع إلى الأبد.
تمتلك الحكومة العديد من الاجهزة والمكاتب والمستشاريات ذات العلاقة بشؤون العشائر، ولكنها لم تعمل أو تسهم بشكل جاد في تحجيم هذه النزاعات والحد منها ودراسة أبعادها وتقديم خطوات ومقترحات للحد منها، بل كل ما تفعله اقامة مهرجانات وتجمعات إعلامية لا أكثر.
تفاقم الظاهرة العشائرية وعدم اكتفائها بالبقاء في معاقلها الريفية التقليدية، بل أخذت بالتوسع بعد عام 2003 والزحف نحو المدن التي اصبحت هي الاخرى ميدانا جديدا لهذه النزاعات يحتاج إلى معالجة حقيقية كغيرها من الظواهر الطارئة على البلاد والتي اخذت الحكومة تعمل على التصدي لها مؤخرا، وهذا يتطلب جهدا وعملا كبيرين، من أبرزها تشخيص أسباب هذه النزاعات وتحديد اسبابها والعوامل المغذية لها من خلال خبراء مختصين بعلم الاجتماع والنفس واقناع زعماء العشائر بتسوية هذه النزاعات سلميا وإنهائها، وفق خطوات تصاعدية وعلى شكل مراحل، اضافة إلى اتخاذ خطوات صارمة أخرى لجمع الأسلحة، خصوصا المتوسطة ومدافع الهاون والقاذفات التي تمتلك العشائر خزينا كبيرا منها واصدار قوانين تعاقب على امتلاك الاسلحة، دون ترخيص بالسجن والخطوة الاهم تتمثل في تنمية تلك المناطق اقتصاديا وتوظيف الشباب العاطلين عن العمل الذين يستغلهم مشعلي النزاعات والفتن كمقاتلين في تلك الحروب الصغيرة، التي تستنزف دماؤهم واعمارهم من دون اي مبرر معقول لذلك واقامة المشاريع واعمال التنمية فيها، اذ يعتبر مطلبا ضروريا لتبريد تلك النزاعات والتثقيف باتجاه سيادة القانون كمرجع وغاية اساسية لحل الخلافات والنزاعات سلميا وليس من خلال البنادق والحروب.
الحملة لانهاء الحرب العشائرية المتواصلة منذ عقود طويلة وتتسبب في ارهاق كبير لاجهزة الدولة الأمنية، يجب أن تمثل ستراتيجية جديدة ومطلوبة من قبل الحكومة لغلق هذا الملف المرهق والمؤذي، خصوصا أن هناك فرقاً عديدة من الجيش وقوات الشرطة الاتحادية موظفة باتت لفض هذه النزاعات وتقدم خسائر عديدة بسببها، رغم أن واجبها الرسمي والمفترض هو التصدي للارهاب وحماية البلاد من خطر عصابات داعش الإجرامية.