محمد الماغوط وزياد الرحباني.. وجهان لرغيف خبز واحد

ثقافة 2023/02/26
...

 بيتي فرح

عندما نقول المسرح السياسي، يأخذنا التاريخ في طياته إلى اليونان الأفلاطوني الذي أدت مسارحه دوراً مركزياً في تسليط الضوء على الاستبداد السياسي للمدينة، عبر عروض ومهرجانات كانت الوسيلة الأسهل لحشد ولاء الجمهور، واستبدال قناعاتهم المخدرة؛ وحتى اليوم مازال المسرح السياسي مزيجاً ساخراً من التراجيديا الكوميدية تحولت فيه الخشبة إلى منصة لتخفيف كبت المشاهد المنهك من الفقر والقهر والقمع.

وهذا ما أبدع به الكبيران محمد الماغوط وزياد الرحباني، الخطان المتوازيان اللذان لا يلتقيان بطرحهما للكوميديا السوداء المشبّع حبرها بظلام السجن، فالماغوط المنحدر من أسرة فقيرة وهبته طفولة بائسة انعكست على قلمه المتمرّد ليتعرّف منذ سن التاسعة على السيجارة، وتصبح الكأس نديمه في الشباب.

 احترف الماغوط لاحقاً الأدب السياسي الساخر، فكتب الرواية والشعر وأبدع في القصيدة النثريَّة، كما ألّف العديد من المسرحيات الناقدة التي أدت دوراً كبيراً في تطوير المسرح السياسي في الوطن العربي. وبالرغم من النجاح الباهر لمسرحياته لم يكن الماغوط راضيا عنها؛ لأنَّها تعرضت للتحريف. ومن أهم مسرحياته: ضيعة تشرين، شقائق النعمان، غربة، كاسك يا وطن، كما سرقت أفلامه عين المشاهد لما تمتاز به من تلقائيَّة وجرأة قلَّ نظيرها آنذاك تحت نظارات الرقابة الصارمة، كفيلم الحدود

والتقرير.

يتحدث الماغوط في إحدى اللقاءات الصحفيَّة عن انتمائه الحزبي، عندما وقع اختياره على الحزب السوري القومي الاجتماعي، لاحتواء مكتب الحزب القريب من بيته على مدفأة تقيه برد الشتاء؛ ولأنَّ مكتب حزب البعث كان في حارة بعيدة عنه. فإغراء الدفء والشبع لا يقاوم في البلاد العربيَّة. 

هذا الانتماء الذي صنع نقلة جذريَّة في حياة «الماغوط» الذي بسببه لوحق وزجّ به في السجن عدة مرات ليتعرّف خلالها على أدونيس الذي كان في الزنزانة المجاورة لزنزانته، فتتفجّر خلف القضبان موهبة أدبيَّة استثنائيَّة جعلته يبحث عن وسائل أخرى أكثر حدّة فيعتنق المسرح والسينما والتلفزيون بأسلوب براغماتي يشبه سياسة الكيل 

بمكيالين.

السهم الذي كتب به الماغوط هو سهم السخريّة الجارحة والقاتلة الذي اخترق جسد المواطن العربي - بالمعنى الحرفي للكلمة - الذي أنهكته سياط الجلادين قبل أن ينهكه بؤس الحياة نفسها، جسد يبحث عن مستقبل في وطنه، يقتات خبزه من الأفران لا من القمامة، يحلم بتذوق المواطنة بنكهة الانسانيّة؛ لكنّه بالنهاية أعلن هزيمته أمام حزن الوطن. وهنا يتراءى لنا الوجه الآخر للرغيف زياد الرحباني ابن فيروز وعاصي، فقد اشتهر بموسيقاه الحديثة ومسرحياته السياسية الناقدة التي وصفت الواقع اللبناني الحزين بفكاهة، فيتحول إلى شخصية مثيرة للجدل بسبب موسيقاه وشعره ومسرحياته الساخرة بلغة واقعية جدا، بعكس الماغوط الذي أعلن هزيمته أمام جراح الوطن وطغت على أسلوبه

العاطفة.

يعتمد زياد الرحباني على الأسلوب العبثي في مقاربة جوانب القصّة المسرحيّة، والمكان غالباً هو العالم العربي - كما الماغوط - والزمان في القرن الواحد والعشرين أو الحادي عشر أو الواحد والثلاثين.

ومن وجهة نظره تعد التبعية القبلية والتعصب الطائفي كالسجن والسجّان المغتصب لفكر الإنسان، يقول: «تعودنا على فكرة القمع والعيب والتقاليد حتى خلقنا سجنا فرديا داخلنا وأقمنا جلادا على أفكارنا، إن لم يكن بمقدورنا العيش بحرية، والتفكير بحرية، والتغيير بحرية فما قيمة وجودنا»، لنقول هنا إنَّ السخريّة من القمع في السجون العربية أعادت زياد الرحباني إلى المسرح بقوة لتجسيد دور طبيب السلطة القمعيَّة في مسرحيَّة (مجنون يحكي) محاولا إيهام ناهدة المعتقلة في مشفى المجانين التي تصارع لإثبات أنّها أنثى بينما تسعى السلطة من خلال الطبيب النفسي لإقناعها بأنّها ذكر، ما يذكرنا بمسرحية «الماغوط» الكوميدية الساخرة (خارج السرب) التي تتطرّق للسياسة أيضا عبر أسلوب الترميز الذي تميز

به..

والمعروف عن زياد أنّه متعدد المواهب، فهو ملحن وموزع موسيقي له مكانته عالميَّاً، ناهيك عن أنّه شاعر وكاتب وإذاعي وصحافي ومعلق سياسي قدم عدة برامج إذاعيَّة كانت تبثُّ من إذاعة صوت الشعب في لبنان عبر فيها عن مواقفه السياسيَّة إثر الحرب اللبنانيَّة، كان فيها منحازا لقضايا المضطهدين والفقراء، لم يخفِ زياد الرحباني انتماءه الشيوعي العميق يوماً، وكان ينتقد الفنانين الذين لا يعبرون عن آرائهم السياسيَّة خوفاً من خسارة

جمهورهم. 

هذا التنوع الثقافي والمناقبي لدى الماغوط الذي سجن مرات عدة وزياد الرحباني، أعطاهما طابعا خاصا انعكس على أعمالهما التي أعطت دلالة وعمقا قلَّ نظيرها، فقد أسسا مسمّيات لعمل مسرحي غنائي أو سينمائي متكامل أوصلوا فيه معاناة المواطن من الخشبة والشاشة إلى العالم ليجاريه وجه رغيفه «الماغوط» الذي لم يبع قلمه ولا فكره لشركات المال حتى مات غنيَّاً بأحلامه فقط، انتقد الرحباني الموسيقى التجارية الرديئة التي تسوقها شركات الانتاج؛ لأنّ الذوق الفطري أكثر

ارتقاء.

دائما غاية الإبداع واحدة رغم اختلاف الأسلوب التلقائي الذي يستسيغه الأميّ قبل المثقف، لتوحّد الغاية هذين الكبيرين، فمن وحي الحذاء المهترئ صنعوا رواية ومسرحية وتحول البسيط إلى إبداع، ليقدما نصا غير شعبي، وربما غير شرعي في نظر بعضهم، أو نصا مثقفا جادا ومتزمتا لقوانين اللعبة المسرحية التي تظهر فيها الصيغ المحمومة بتناغم هارموني.. إنّهما خزّان مليءٌ بالفرح والحزن، ابن السلمية الفقير، وابن بيروت الغني أثبتا أنَّ المستوى الاجتماعي لا يصنع الموهبة، بل جينات الإبداع تكمن في ألم التجربة وكيفية

 ترجمتها.