ابتلاء كامن في معزوفة موسيقية

ثقافة 2023/02/26
...

 أميرة مصطفى*  


ثمة خطر كابتلاء كامن في معزوفة موسيقيَّة. ابتلاء بالعشق. إنّها غرناطة وإنّه نصير شمة. لكأنّها ترانيم الأكوان في أغوارها العتمة.يعزفها ويشاركه العزف الإسباني «كارلوس بينيانا» على أحد المسارح السويسرية بجنيف، عزفًا ثنائيًا خلابًا لا يشوبه أي نقص.تستهلها دندنات رهيفة يهمس بها الجيتار، رقّت لها مسامعي ولم ألبث حتى اقشعر بدني بغتة وانعقد حاجبيّ تقطيبًا كمن وخزته إبرة، ما إن لامست أصابع نصير شمة أوتار عوده. أسدلتُ جفنيّ وأسلمت له جميع حواسي يطربها ويوخزها ما شاء.أدركتُ في أعقابها، براعة القائم على أعمال الديكور بالمسرح، وأهمية الظلمة التي كانت تغلف المسرح كله.

كانا يعزفان في زيهما الأسود فيما كانت خلفية المسرح تظهر بلون الليل الداجي حيث ما من نجمات متسللات تعكر صفو سواده الحالك. مسرح يتشح بالسواد إلا من لون واحد، تتفاوت درجاته لتصبغ بشرتيهما، وجسم الآلتين، وخشبة المسرح على امتدادها.

مسرح بلون الفضاء قبل انقساماته لاستيلاد الحياة.

مسرح بطعم الموت، بعثته ألحان ملائكيَّة. ذلك أنّ الموسيقى لا يليق بحضرتها أي لون.. لا يليق بها إلا الأسود، ذلك الذي يختزل في عينيك الحياة إلى لحن يخلِق أمام ناظريك حيوات عديدة ويطليها بما لا علم لك به من ألوان. حينها يهمس إليك النغم: أن أغمض عينيك.. إيَّاك ألّا تغمض.. احجب العالم عن ناظريك سوف أُشهِدَك كيف أحييك من موتة الإحساس. ويخط لك سماوات أُخر يحملك إليها. فكل جمال تتلاشى جماليته أمام سحر النغم.لا أذكر قط تجهُّمًا وتقطيبًا فعلته بي أنغامٌ من قبل، فأدركت حينئذ كيف يبكينا الفرح.. كيف ندمع لفرط السعادة.. كيف تدمينا النشوة.. وتهتاج حواسنا التي اعتادت الموت، فتنتفض مرتعشة، لكأنها صحوة البعث ما بين موت تعيشه وموت ستموته!

كنت مأخوذة بتأثُّر «نصير شمة» في أثناء أدائه.

لم يكن يعزف بأنامله فحسب بل بكامل جسده. تلك هي المرة الأولى التي أصادف فيها عزفًا موسيقيًا تُدرَج ضمن آلاته الموسيقية: وجه عازفها، كآلة بحد ذاتها.

كما لو كانت انفعالات ملامحه جزءًا من اللحن.. حتى تضفي عليه روعة وحياة، فيصير تتبُّع عينيك لعزف تقاسيم وجهه، ضرورة لذروة المتعة.أذهلني كيف كان مقطبًا وكيف كانت رأسه ترفض الثبات والوقار، وعضلات وجهه ترسم زوايا ومدارات امتدادًا للّحن، وانخراط جسده ما بين انقباض وانبساط في حركات عصبية انفعالية لا إرادية أقرب لنوبات تشنجات من فرط التأثر والانفعال وكأن كل عضلة فيه موصولة بوتر.

كان يعزف على أوردته. لكأني به يعزف على جرحه الحي فينزف ألحانًا برائحة دمه. فلم يهدأ جسده أبدًا طيلة لمس أنامله لأوتار العود حتى أنه استأثر بإعجاب الكاميرا لنفسه، كما اقتنص انبهاري قنصًا، فزاغت عدسة الكاميرا عن كارلوس وأبت إلا أن تعانقه كأخلص ما يكون. لا يبرح بالي أبدًا، نظراته الخرافية المعبرة غير المقصودة، الموجهة لنظيره الإسباني في أثناء العرض، كقائد أوركسترا، ولا سيما تلك النظرة الأخيرة التي أنهى بها العرض كله كبطلة لا يليق بغيرها أن يسدل الستار.. إذ التفت ببطء وشجن ينظر إليه بينما يدق آخر وتر في معزوفته، كمن يحاكيه بعينيه بلغة صامتة مصحوبة بإشارات ناطقة معبرة، نطق بها كتفه الأيسر بحركة تلقائيه للأعلى في استفهام.. أو تسليم المغلوب على أمره.. أسفًا على نهاية اللحن أو ربما على شجن وحزن ليس لهما من نهاية ولا تسعهما أوتار! حتى أنني أدمنت على التسمُّر أمام تلك النظرة بالذات بكل مرة أسمعه.. أراقبها وأعيدها وأستعذبها كلحنٍ مستقل.

 فهناك بُعد آخر من المتعة والشجن لا يتحقق إلا بتدقيق النظر إلى ملامح وجهه وتعابير جسده تزامنًا مع ارتشاف اللحن. وبكل مرة تكتشف بعدًا جديدًا من اللذة والانصهار حتى صرت أتمنى أن لا ينتهي العرض أبدًا، وصار من الضروري القلق بشأن إدماني لتلك المعزوفة المسموعة المرئية.

هذا كله فيما كان نظيره صافي الوجه رائق الملامح، كبحرهادئ الطباع، متصالحًا مع عضلاته المستقرة عدا بعض ضربات تناغمية على أرضية المسرح بقدمه اليسرى.. على العكس من نصير الذي ربما كانت عروبته سببًا لشجنه ولإحساسه الذي يفيض حرارة كحرارة دمه، فتطارده عصبيته حتى في أوقات النغم والشجن!وأما عن اللحن، فأي ألفة كانت حاضرة ما بين أوتار العود والجيتار معًا! كانت علاقة حميمية يقيمانها معًا على مرأى الأشهاد ومسمع المنعمين.

رأيتُ اللحن. تجسد أمامي في حكاية عاشق تراه بخيالك لا بعينيك.. يتقد وجعًا. ينفث نيران اشتياقه في آهات ناي حزين.

فكان العود منذ اهتزازته الأولى، عاشقًا يبكي حبيبته. يئن ويشكو صادحًا ملء بياض السماء وسواد الثرى وملء العذاب الذي يعصره. وقد باغتته أوتار الجيتار بعد لحظات قليلة من بدء العزف وأهدته لمسة من يد حبيبته تربت على كتفه من الخلف لتدب في قلبه بهجة وتسري في جسده رعشة. رعشة الفرح. فينتفض اللحن فرحًا ملحوظًا لا يلبث حتى يغيب إذ ترفع كفها عنه وتختفي.فيستأنف العود شجنه وأنينه وألمه، حتى يتأجج الشجن والحزن بانتصاف اللحن. هاهنا، تحنو عليه الحبيبة وتظهر مرة أخرى..تلمس كتفه الأيسر من الخلف فينتفض. وإذا بها تثبّت كفها عليه لتحفظ له اطمئنانه فيما تستدير بجذعها قبالته حتى يراها. يتمايل جذعها الغض ميلًا رشيقًا أمامه. تجذب بيدها وشاحها الأبيض الشفاف المتطاير من حول عنقها فتحرره من عشق بياضها المرمر. تمسك طرفيه برفق بيديها الممدودتين عاليًا للسماء ليبدو كجناح من حرير.. وترقص أمامه في دلال. ثم ترمي وشاحها الناعم على وجه حبيبها فيصك وجهه عطرُها وتدغدغ حواسه نعومة وشاحها، فيلملمه بين كفيه ينشق عطرها بقوة ويطبع عليه قبلة أودعها ما مضى من وحشة.

تتراقص هي وتدور. تمد يمناها وتخلص وشاحها من حريق القبلة، فالحرائق العشقية لا يليق بها غير الشفاه وقودًا. تمسك بطرفي أنملتيها طرف الوشاح وهي ترقص بينما توليه ظهرها وهي تدور بغنج كجِنّية بحر صنعتها الغواية. ترفعه لأعلى، بيد واحدة، تلوح به يمينًا ويسارًا فيُساقِط عليها ملائكية وجمالًا. تبسم وتنظر إليه في دلال وهو المسحور بجنيته المأخوذ بحوريته في جنات ونهر. ترمي على وجهه الوشاح مرة أخرى وتضحك. تشد يده تُنهضه. تجذبه إليها. تتمايل بين ذراعيه وتراقصه، فراح يرقص كما لم يرقص من قبل وكأنه ما راقص عَبراته يومًا وما التاع قط من تمايلها الحار على وجنتيه.

كان عناقًا بهيجًا بين نغمات العود والجيتار حينئذ، وذروة الفرحة باللحن، قبل أن تختفي الحبيبة من بين ذراعيه مجددًا لتذره وحيدًا مع لوعته. فراح العود يئن شجنًا من جديد.

تمنيتُ حينها أن ألتقط وشاحها قبل أن يسقط أرضًا لأرميه على وجه «نصير شمة» ليكمم دمه الذي يتقطر من أوتار عوده، قبل أن أمد يدي إليه أدعوه إلى رقصة لا تنتهي أبدًا.. أراقصه على أنغام روحه علها تستكين!كان لحنًا مسموعًا ومحسوسًا ومرئيًا ما أعذبه! كان أقصوصة خيالية صدحت بها شهرزاد في إحدى لياليها المِلاح قبل أن يدركها الصباح لتسكت عن الكلام المباح.

*كاتبة من مصر