الشكل الدائري للعُشَّاق

ثقافة 2023/02/26
...

 وارد بدر السالم


(1) أحتاج الى أن أكون في الزاوية الأخيرة من القفص لأراه على نحوٍ جيد. إذ يمكن التقاط حركته المنهمكة بحفر جذع الشجرة بمفتاح صغير أخرجه من جيبه، ومع أن نظري جيد لكنّ ثمة أغصاناً تميل مع الرياح من جهة الأمام، فتحجب عنّي صورته المنهمكة بالحفر الدقيق. وكما يبدو لي بأنه يحفر اسم حبيبته أو الحرف الأول منها. فدائماً أرى الكثير من الشباب يحفرون أو يرسمون أسماء حبيباتهم أو حروفهنّ الأولى على جذوع الأشجار. 

هذا الشاب وضع أمام الحرف قلباً مصاباً بسهم خارق. فقد اعتدت أن أرى مثل هذا كثيراً بشكل يومي، كلما يتم نقلي الى قفص جديد في الحديقة الكبيرة. ولعلّي الآن أرى بأنّه أكمل رسم حرفه كعاشقٍ يولي اهتمامه بترتيب الحرف وتنظيفه من قشور الجذع الناتئة على حافّاته. وقبل أن ينهض حفر الحرف الأول من اسمه، وجعله بموازاة حرفها، وترك القلب المصاب بالسهم بينهما. وقف بطوله المتوسط، كرسامٍ يتأكد من صفاء لوحته المنجزة. وهو يوازن بعينيه حرفي اسميهما القريبين من بعضهما ويبتسم لهما.

(2) عيناي صغيرتان بحجم سمسمتين أو أكبر قليلاً، لكنهما لن تكونا بحجم حمّصتين في الأحوال كلها. فأنا لست حمامة في الجانب الشرقي من الحدث اليومي. بالكاد ترى عيناي الجانبيتان ما يفعله ذلك الشاب الذي يرتدي الزي الجامعي ويجلس متربعاً كأنّه يأكل. ولأنني أشعر بحرية كافية أستطيع الاقتراب منه وأقف على الشجرة التي تقابل شجرته، وأراه مشدوداً الى جذعها، بعد أن خطّ حرفاً بشكل كبير تقريباً وظلله. وأمعن النظر اليه، يباعد رأسه قليلاً، ثم يعاود التظليل بالقلم الجاف، محاولاً أن يحيط الحرف بهالةٍ من التظليل الفاتح من الداخل، ثم الغامق من الخارج. لكنّه لم يقتنع بالشكل الأخير. فأعاد تظليل الداخل وجرف الحرف قليلاً من محيطه الخارجي، ليحيطه أيضاً بهالة شفافة أول الأمر، لكنه وهو يُبعد رأسه لم يقتنع تماماً، فأعاد تظليله من جديد.

يمكن لي أن أقول إنّه صرف أكثر من ساعة، وهو يتأنق برسم الحرف لحبيبته التي لم تحضر معه. قد يشعرها لاحقاً بأنّه خط حرفها الأول على كتاب الشجرة.

(3) بسبب حركتي المستمرة في جنوب الحديقة، وتقافزي اللا إرادي في القفص، يتغيّر عليَّ موقع الشاب الجالس أمام شجرة اليوكالبتوس. إذ أستطيع أن أراه في أكثر من زاوية وهو يرسم أو يخط شيئاً ما. ففي مثل هذا الوقت الصباحي عادة ما يكون زوار الحديقة من الطلاب والطالبات الجامعيين، الذين يسرقون بعض الوقت، ليمرروا غرامياتهم هنا، ويتفقوا على الحب في بصمة عهد عاطفي طويل لا يتحقق في أغلب الأوقات، كما تأكدتُ وتحققت من ذلك في سنواتي الطويلة هنا. ففي أحيان كثيرة أحفظ سمات الأشخاص الذين يرتادون المكان أثناء دراساتهم الجامعية وبعدها. بينهم من أراه بعد سنوات يجر وراءه امرأة شوّه الماكياج وجهها، وهي تحمل طفلاً وتجرُّ وراءها طفلين، ومنهم من أرى غير حبيبته التي خطّ اسمها على جذع شجرة. يمشي معها بتذمر واضح. وقد رأيت أشياء كثيرة متناقضة لا أثق بمحتواها بشكل عام، كهذا الشاب الذي يتأنى بخط الحرف الأول من اسم حبيبته ويضع قلباً مشطوراً بسهم جاف، وأسقط تحته وردة حمراء تبكي.

(4) أستطيع القول إنّ طلبة الجامعة القريبة من الحديقة هم أكثر روادها زيارةً وحركةً واختباءً أيضاً. من غرب الشجرة أستطيع أن أرى هذا؛ فالكثيرون يبحثون عن أماكن كثيفة الأشجار وأغصانها متشابكة، بدعوة البحث عن فيء، والحقيقة هو محاولة سرقة قبلة أو قبلتين من الزميلات والحبيبات. وهذا أمر شائع بين طلبة الجامعات الذين يقضون معظم أوقاتهم هنا. حتى ذلك الشاب الطالب الجالس أمام جذع الشجرة وكأنه يقرأ الفاتحة على قبر أمه، يخط اسم فتاته بعناية كبيرة، وسيستدعيها الى الحديقة ذات يوم ليريها حرفها المتوهّج بالقلم الجاف أو المحفور في قلّامة أظافر أو سكين صغيرة أو مفتاح البيت، ثم يقنعها بأن القُبلة هي عربون وفاء بينهما. فهي مثل كتاب مقدّس للعاشقين. لا يمكن نسيانه أو ذبوله مهما تقادم الزمن عليهما.

(5) من الجانب الشرقي للشجرة يمكنني أن أرى نصف الشجرة ونصف الشاب الجالس على ركبتيه كما لو هو يصلي قضاءً في الساعة العاشرة صباحاً. وواضح لي بأنه يُخطئ كثيراً بتمرير قوس صغير للحرف الأول من اسم فتاته. لهذا كان يتأفف، كأنّه في امتحان تحريري وقد حاصره الوقت.

ليس صعباً أن أعرف ما يدور في رأسه. فمن السهولة أستنتج بأنّه ضجِر وحزين الى حد كبير. هرع الى الشجرة لتمتصَّ أوجاعه الشخصية بكتابة الحرف الأول من اسمها، ثم يضع حرفه الأول، ويرسم قلباً دموياً ووردة حمراء ساقطة تحته. يريد أن يبكي في الرسم، ولما لا تسعفه نوبة البكاء يُخرج من جيبه مفتاحاً ويبدأ بحفر جذع الشجرة بقوة، ينتظر أن تنزّ دماً في مساحة الحرف الأثير أو حرفه معها.

شيء من هذا يحدث دائماً بين هؤلاء المراهقين الشباب، الذين يستعطفون الأشجار بأن يتركوا ذكرياتهم الرومانسية على جذوعها الصلبة. لكن الشجرة لا تبكي. ولا تتألم.

فجذعها أسطواني سميك يحميها من هذه الخربشة التي اعتادتها كل يوم.

(6) غرب الشجرة لا أرى من الشاب سوى أصابعه المنشغلة بالكتابة البطيئة أو الحفر المُلحّ لحرف اسم فتاته. أعرف هذا لبقائي مدة طويلة في الحديقة الكبيرة وانتقالاتي المستمرة هنا كلما أرادوا توسيع المكان أو نقله بسبب زائر أفريقي مخيف يبعدوننا عنه حتى لا نُصاب بالهلع والرجفة الليلية وربما التبول اللاإرادي. لذلك أعرف تماماً حركة أصابع الشاب الهارب من محاضرته الجامعية، وجاء الى هنا  ليكتب اسمها أو حرفها الأول بروحٍ عاشق قتله القلق والتفكير بمحبوبته الصغيرة التي لم تأتِ معه. لعلها الآن في حديقة أخرى مع طالب غيره تبادله الغرام والهيام. وتكتب هي حرفه الأول على شجرة مشابهة أو مغايرة.

لا أتقول على أحد ولا أشوّه صورة العشاق الشباب، بل هذا واقع أدركه وأعيه بشكل صحيح. إنها خبرة الحياة الطويلة في هذه الحديقة الكبيرة.

(7) الآن في موقعي الجديد، بين شرق الشجرة وشمالها. في زاوية مستريحة أرى عبرها شاباً جامعياً مقرفصاً أول الأمر. ثم يقف ويمدّ ذراعه اليمين يتلمس الجذع كمن يبحث عن مكان آمن له ومساحة نظيفة لم تصل اليها يدٌ قبله. ولا أظنه اقتنع بالكثير من المساحات المتروكة أمامه. لهذا ابتعد قليلاً عن الجذع، وقاس في ذهنه إمكانية أن يكون ما يخطّه بارزاً ولافتاً للنظر. فاقتنع بعد محاولات سريعة أن يكون حرفها أمام مستوى عينيه تماماً. فهمهم مع نفسه أنه يتكلم معها. ورسم نصف القلب أولاً، ثم الآخر وبرّز حرفها في منتصف القلب، وتردد أن يدميه بسهم خاطف. لكنه أدماه بعد التردد ولم يرسم حرفه الأول في هذه الموقعة.


***

عمال الحديقة يعبئون عرباتهم اليدويّة بالفطور الصباحي من اللحوم والبذور والفاكهة والمكسّرات الجافة. وينقسمون الى مجموعتين بشكل دائري، تأخذ الأولى مهمتها شمال الشجرة وغربها وما بينهما لإطعام الفيلة والقرود والنمور. فيما تتعاكس معها المجموعة الثانية في جنوب شرق الشجرة وما بينهما؛ لإطعام الفناجس والببغاوات والثعالب والطيور المختلفة التي تتزاحم على واجهات

الأقفاص.