عواطف مدلول
كانت في كل مرة تتعرض لوعكة صحيَّة تنصحها صديقتها المقربة لها أن تحرق ورقة غار، وتستنشق رائحتها، لعلها تخرج من حالة الضيق والألم الذي تشعر بهما بشكل دائم، وتخبرها بثقة عالية بأن تلك الطريقة سوف تزيل جزءاً كبيراً من الهموم المتراكمة بداخلها، وتعمل على حمايتها من أذى العين الحاسدة وتحصنها من السحر، فتنصاع لكلامها ولا تتردد في تجربتها رغم عدم ايمانها المطلق بأهمية ذلك،اذ حتى وإن تحسن وضعها فإن تأثير هذا الامر سيكون ربما مؤقتا، من ناحية نفسية على الأقل، وبالتأكيد يعتمد على مدى قناعتها به.
فهي تشكك كثيرا بتلك الممارسات الطقوسية، التي يتفاءل بها ويتفاعل معها معظم الناس، وتعدَّها من الترهات التي لا ينبغي التمسك بها لحد المبالغة، والاعتماد عليها في الخلاص من الأمراض والعقد المحملين بها منذ طفولتنا، وتبقى عالقة بنا مدى العمر، لكنها تحاول أن تفعل كلَّ ما يمكن أن يجعلها غير مقصرة تجاه نفسها.
الفضول والرغبة بالاستطلاع يدفعانها أحيانا للبحث في (اليوتيوب) و(الغوغل) عن تلك المعتقدات ومتابعتها، لمعرفة أساسها ومدى انتشارها وتقبلها لدى الجميع، لعلها تسهم في إنقاذها، والتخفيف عنها، الى جانب العلاجات الدوائية التي تستعملها منذ سنوات دون جدوى، لتتأكد من أن المعلومات حولها تشير إلى دورها الكبير في تهدئة الاعصاب وتقليل التوتر، وتطهير كل مكان، لأنها تعمل على طرد كل الطاقات السلبية بحسب دراسات علميَّة دقيقة عديدة نشرت بخصوصها.
تستحضر ما كانت تقوم به والدتها، حينما تجمع عددا من بذور الحرمل وورق الغار وأعواد القرفة، وتضعها على موقد النار بالخفاء دون علم الجدة، التي عرفت بقسوتها (الحنونة) في إدارة البيت، فهي تحكم أولادها الثلاثة وزوجاتهم وأبناءهم ايضا بقوانينها الصارمة، وفي أوقات خروجها للتسوق أو عندما تقصد زيارة بعض الجيران أو الأقارب، غالبا ما تطلق نساء المنزل بخورهن من وصفات شتى وبمراسيم استشفائية مختلفة سعيا لبث السلام فيه، لا سيما عندما يكون مشحونا بالخلافات إلى حد الذروة بين أفراد العائلة، إلا أنهن لا يسلمن من الحساب والعقاب، اذا كشفت السيدة الكبيرة (العمة) أفعالهن تلك، لخوفها من قيامهن بأعمال شيطانية بسبب جهلن وكذلك غيرتهن من بعضهن.
تذكر أن كــــــل محاولاتهن هذه لا قيمة لها أمام حضورالجدة البهي، فالهدوء والسكينة يعمَّان الدار عندما تؤدي صلاتها في جميع غرفه، بعد أن تبخر زواياه وأركانه، وتنثر عطر حبها وحنانها فيه، مع قراءة بعض آيات من القرآن الكريم، وترديد التعاويذ بترتيل وخشوع مذهل، والكل يستمع لصوتها العذب ويتبارك ويطمئن بذلك، فهي توصف حتى من قبل الغرباء بالمرأة (الخيّرة)، وقد أثبتت المواقف والمحن صلاحها بالقول والفعل، لذا تمتلك مهابة وتقديرا عظيما لديهم.
ومن حسن حظ أحفادها أن تكون متعتها الأجمل هي رفقتهم حتى باللعب، ومن بين التفاصيل التي كانت تسعدهم وتزرع في نفوسهم الحب وتوثق المودة بينهم، لو مرض أحدهم تجلب إناءً واسعاً مليئاً بالماء وتصنع بيدها قوارب من ورق (الابرو) الملون وتوزعها بين الصغار، وتطلب منهم كتابة أسمائهم وأحلامهم عليها حتى تتحقق، وكانت الأمنية التي يتفق عليها جميعهم أن يتعافى المريض في البيت، فيبدؤون بالتسابق بها وترقب اذابة الحبر منها إلى أن تختفي نهائيا، وهم على يقين بنجاحهم في المشاركة بأبعاد الشرور والمصائب عن بيتهم.
إنه زمن الجدات الذي لن يتكرر أبدا، والأمهات القويات اللواتي كن يقفن بصلابة كالأشجار، التي تمنح الدفء والأمان، لكل من يجلس تحت ظلها، لأنهن عقدن سبلهن للحياة بالنوايا الصادقة الطيبة، معتمدات الحب كمصدر لكل شيء مضيء ورائع في ذلك الكون.
لذا هي تعي وتدرك تماما أن ورقة الغار وحدها لا تكفي، لتنير ظلمتها وتحدث تطهيرا في روحها، إلا إذا امتزجت بدعاء قلوب تحمل محبّة خالصة لها، وذلك الذي ينقصها بالوقت الحالي، كي يشفى جسدها من العلل، وتتنصر على غربتها في
هذا العالم.